ماذا يجب أن أعرف عن التربية؟ 2
من جديد، واستكمالاً لما تم تناوله في المقال الأول المعنون بنفس العنوان [ماذا يجب أن أعرف عن التربية؟]، ولأنه يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً في عالم الأسرة عندما تتخذ القرار بتربية أبنائها، ولأن الكثير ممن قرأ المقال الأول، ووجد الإجابة على: ما هو هدفي من التربية؟ ومن سأربيي؟وعلى ماذا أربي؟ وكيف أربي؟، طلب أن أكمل بالإجابة على تساؤلات إضافية تفرضها عملية التربية؛
لذا، جاء هذا المقال ليحمل في طياته إجابات أولية على تساؤلات إضافية تشكِّل بحد ذاتها مقدِّمات عملية متمِّمة في مسار التربية الناجحة. لأن التوسع في جوانب التربية يفرض البحث عن إجابات تطال التساؤلات التالية أيضاً:
- لماذا أربّي؟
- ومتى أربّي؟
- وأين أربّي؟
- وماذا لو لم أربّي؟
قد يرى البعض بأن الأسئلة قد تتقارب في مضامينها، وهذا أمر بديهي، كونها تطال بالمباشر حركة التربية التي يمارسها كل منّا، ولكن تختلف المباشرة ويختلف المقصد في الإجابة عن كل سؤال، فحينما تكون التربية بموقع مسؤولية لدى أي فرد سيجد بأن كلاً من هذه الأسئلة يحتاج إلى الاستفاضة في االجواب عنها.
وبالعودة إلى الأسئلة أعلاه، ففي الإجابة على السؤال الأول، لماذا أربي؟
إن كل إنسان في هذا الكون يحمل في نفسه نزعة نحو البقاء (بمعزل عما إذا كانت هذه النزعة نحو البقاء في الحياة الدنيا أو في الآخرة)، والبقاء هنا قد يكون بالحضور الفيزيولوجي، حيث الوجود المادي، أو البقاء بالحضور المعنوي، حيث الأفكار والقناعات والقيم والسلوك؛ هذه النزعة، وإن كانت نسبية بين فرد وآخر، إلا أنها تحضر بقوة لدى من يؤمن بسلوكه وأثره وتبعات ما يقوم به، فيحرص دائما على نقل ما لديه إلى الآخر.
من هذه المقدّمة يتضح مبدأ أوّلي في البحث عن جواب لسبب التربية (لماذا أربّي؟)، فالإيمان بالدور الذي يقوم به كل من الوالدين، سواء من موقع الأبوة أو الأمومة ، يجعلهما أمام تحدٍ من نوع آخر، هو إعادة إنتاج ما لديهم (بعيداً عن تقييمه) إلى أبنائهم، انسجاماً مع نزعة البقاء التي بداخلهم.
ولعل أصدق تعبير ينمّ عن هذا السلوك، ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام): وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئَاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وكَأَنَّ الموْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيْنِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي.
ويظهر من هذا الكلام وحدة الحال بين الأب والأبن، وهذا لا يتحقق إلا من خلال التربية المباشرة، ليرى المربّي في المتربّي ما يراه في نفسه، فتخلُد من خلاله.
ولكن متى يمكن أن يتحقق ذلك؟ هذا ما يجب أن يقود إليه السؤال الثاني.
إن عملية التربية تبدأ منذ اللحظة التي يتخذ فيها المربّي القرار بالتربية، وليس حينما يصبح أباً أو تصبح أُمّاً، فالأمر لم يعد مرتبطاً بمدى زمني محدود، ولكنه يمتد منذ اللحظة التي يدرك فيها الفرد أهمية الأمر، لأن المسألة تتعلق بتربية الذات قبل تربية الغير، وهذا ما يمكن أن يبدأ حتى قبل الزواج والتفكير بالإنجاب. إن مسألة صناعة القدوة – النموذج التي يسعى لها المربّي، والتي تشكل إحدى ثلاث قواعد أساسية في التربية (كما مرّ في المقال السابق) لا تبدأ حال الأبوة أو الأمومة، وإن كانت الحاجة إليها في هذه المرحلة أكبر، بل إنها تمتدّ مع سنيّ عمر الفرد، ولا تنتهي بمغادرة الأبناء لمنزل الأهل حال الزواج والاستقلال عنهم، بل قد يحتاج الأبناء في هذه المرحلة إلى قدر أكبر من الإرشاد والتوجيه لحياة جديدة سيقومون فيها بدور الآباء أو الأمهات.
لذا باختصار، فإن زمن التربية مرهون للقرار الذي يتخذه المربّي، بأنه هل يريد أن يكون مربياً أم لا، وهذا يبدأ من لحظة إدراكه من خلال ذاته أو تعريفه من قبل الآخرين بالأمر.
ويأتي السؤال الثالث، بتحديد مكان التربية، فأين أربي؟
من البديهي أن يكون الجواب هنا المنزل، وهذا صحيح بنسبة كبيرة، لأنه المكان الأصلح والأقوم -إذا كان بالأصل هو كذلك- لإنفاذ عملية التربية. وهنا لا بد من الالتفات إلى أن المنزل بما فيه من عناصر مادية (أثاث، ومقتنيات، ... إلخ) وسلوكية (طرق التعامل، والمبادرات، وردات الفعل، ... إلخ) ، وبما يدخل إليه (أفراد، ومفاهيم، وأفكار، ... إلخ)، وبما يقدّمه من نمط خاص في السلوك، يمكن أن يكون له الأثر الكبير في التأثير على نفوس المتربّين.
والأمر ليس مقتصراً فقط على المنزل، إذ بات كل مكان يمكن أن يتواجد فيه الأبناء مكاناً إضافياً للتربية؛ فالمدرسة، والحي، والنادي، والجمعية الكشفية، ومحل الألعاب، وأماكن الترفيه، بل وحتى المحال التجارية والأسواق بمجملها، باتت شريكاً أساسياً في التربية؛ إذ كل منها يقدّم منظومة متكاملة من السلوك. ولا بد من ملاحظة هامة بهذا الصدد، وهي أنه بقدر ما تكون الهوّة مع المنزل الأسري واسعة، ويفتقد إلى مقومات التربية اللازمة، بقدر ما تكون فرصة تلك الأماكن أكبر بكثير في التأثير على سلوك الأبناء المرتادين لها.
من هنا، فإن من يريد أن يعرف المكان المناسب للتربية، عليه أن يوفّره هو في المنزل أولاً، ثم يعدّ كل مكان يتواجد فيه الأبناء هو مكان شريك في الأمر أيضاً.
يبقى السؤال الرابع وهو الأخطر، ماذا لو لم أربّي؟
إن تعيين المحددات الأساسية بالإجابة على جملة من الأسئلة الواقعية حول التربية قد تصبح في خبر كان في حال الأخذ بالسؤال الأخير الذي قد يضرب كل ما سبق.
إن التخلي عن الدور المطلوب في التربية، لم تعد تنفع معه كل الاستفسارات والتساؤلات حول ما؟، ومن؟، وعلى ماذا؟، وكيف؟، ولماذا؟، ومتى؟، وأين؟، وغيرها...
وهنا تقع الكارثة.
إن الإنسان مع توجهه الكامل في عملية التربية، قد يحصد نتاجاً -في بعض الأحيان- مخالفاً لكل ما يبذله من مجهود، بسبب خلل أو نقص في مكان ما، فكيف إذا كان القرار المسبق بالتخلي عن الأمر من حيث المبدأ؟
في هذه الحالة، أقل ما يمكن قوله هو استقالة الأبوين من دور رئيسي منوط بهما، وهما بذلك لم يعودا مسؤولَيْن عن أي سلوك قد يبدر من الأبناء، سواء كان إيجابياً أم سلبياً، إذ هما قد سلماه إلى بدائل، ستأخذ مكانهما في عملية التربية، فهما يتحملان تبعات التقصير وليس نتاج التربية، لأنهما في الأصل لم يربيا.
في المقابل، يمكن هنا ملاحظة النموذج المغاير تماماً لسلوك الأبوين، والذي تحقق عن غير قصد، بل إن الأصعب من ذلك هو افتقاد الأثر المطلوب، والذي يرغب به الأبوان أن يتحقق في نزعة البقاء.
قد يأخذ الأبناء، أو بالأحرى يقلّدون، بعض السلوكيات بشكل عفوي، لرؤيتهم المشهد الماثل أمامهم في سلوكيات الأبوين، دون ترتيب الأثر على ما يمكن تقليده، باعتبار أن هذا هو الأب وما يقوم به يتمتع بقدر من القداسة لدى الأبناء، وتلك هي الأم وما تقوم به يتمتع بقدر من القداسة أيضاً لدى الأبناء، ليبقى هامش المصادفة -إن صح التعبير- هو الغالب في هذه الحالات.
في الخلاصة، فإن ما تقدّم من جديد في هذه العجالة، قد يجيب على السؤال المركزي الذي يطُرح أيضاً من جديد، حول ما الذي يجب معرفته عن التربية، علّها تسهم في رسم خارطة طريق، قد تحثّ البعض على طرح سؤال أعتقد بأنه جوهري: أين هو موقعنا اليوم في عملية التربية؟
اعداد : علي كريّم،
أستاذ جامعي، مدير مديرية الدراسات الميدانية في مركز الأبحاث والدراسات التربوية.
آخر تحديث : 2024-06-19
تعليقات