تحدّيات الأسرة المعاصرة في مقاومة تغيير الهوية الثقافية

تحدّيات الأسرة المعاصرة
في مقاومة تغيير الهوية الثقافية
د. محمد باقر كجك[1]
أولًا: الهوية الثقافية: ما هي؟ وما عناصرها؟
الهوية الثقافية هي البنية الرمزية التي تمنح الإنسان وعيه بانتمائه إلى جماعة بشرية معينة، وتشكل العمق التاريخي والروحي لوجوده داخل نسق اجتماعي محدد. إنها ليست مجرد سمة خارجية أو قشرة اجتماعية، بل هي ذلك الكل المركب من القيم والمعارف والعقائد والعادات والتقاليد واللغة والرموز التي يكتسبها الفرد بوصفه عضوًا في مجتمع ثقافي معين. هذا المعنى تجده واضحًا في تعريف إدوارد تايلور للثقافة بأنها: "ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة، والمعتقد، والفن، والأخلاق، والقانون، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في المجتمع"[2]. فالهوية ليست فطرية ولا بيولوجية، بل هي مكتسبة، تنتقل من جيل إلى آخر عبر مؤسسات التنشئة، وعلى رأسها الأسرة.
تتألف الهوية الثقافية من عناصر متداخلة، من أبرزها: اللغة، التي تشكل الوسيط الرمزي الأول لبناء التصور الذاتي؛ الدين، الذي يمد الهوية بالبعد القيمي والمعياري؛ القيم الأخلاقية؛ أنماط اللباس والغذاء؛ الطقوس والمناسبات؛ وأخيرًا، الذاكرة الجمعية التي تحتفظ بالحكايات والتجارب والصراعات والانتصارات. وتنبّه الأنثروبولوجيا التربوية إلى أن هذه العناصر ليست ساكنة بل تتفاعل باستمرار مع محيطها، ولهذا فإن الهوية الثقافية ليست معطى نهائيًا بل عملية مستمرة من الإنتاج وإعادة الإنتاج، كما تؤكد الدراسات الإثنوغرافية الحديثة[3].
بالتالي، فإن الهوية الثقافية ليست مجرد بطاقة تعريف ثقافي، بل هي بنية دينامية، تحتاج إلى حماية مستمرة، لا سيما في ظل التهديدات الرمزية التي تصاحب العولمة والتغريب الثقافي .
ثانيًا: دور الأسرة في الحفاظ على الهوية الثقافية
تُعدّ الأسرة النواة الأولى في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية، وهي البيئة الأولى التي يتلقّى فيها الطفل رموز الهوية، ويتفاعل مع منظومة القيم التي تحدّد من هو، ولمن ينتمي، وكيف ينبغي أن يعيش. في هذا السياق، لا تكتفي الأسرة بأن تكون حاضنة بيولوجية، بل تؤدي وظيفة رمزية مركزية، تتمثل في نقل الموروث الثقافي والديني من جيل إلى جيل، وفق ما تسميه الأنثروبولوجيا بـ"الانتقال الثقافي" (Cultural Transmission) . ويتجلّى هذا الدور في تعليم اللغة الأم، العادات، الحكايات، أساليب التديّن، المواقف من الآخر، والنظرة إلى الذات والعالم.
والأسرة في الرؤية الإسلامية، ليست وحدة اجتماعية فقط، بل مسؤولية شرعية ورسالية، إذ يعبّر القرآن عن الأبوين بلفظ “الوالدين” المرتبط بولادة الهويّة، وليس فقط الولادة الجسدية. وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، فالتكليف هنا يشمل الأسرة في بعدها السلوكي والإيماني. كما أنّ الروايات عن أهل البيت عليهم السلام تؤكّد أن الطفل أمانة، وأن على الأبوين أن يربّياه على "حب آل محمد" و"معرفة الحلال والحرام"، كما جاء في وصية الإمام علي عليه السلام للحسن عليه السلام: «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته» (نهج البلاغة، الرسالة 31).
في هذا الإطار، فإن الأسرة ليست مجرد وسيط بين الفرد والمجتمع، بل هي "البيت الرمزي" الذي تُصاغ فيه الهويّة الأولى، وتُقاوَم من خلاله أشكال التفكك الثقافي، خاصة في ظل هيمنة مؤسسات خارجية كالإعلام والمدرسة الحديثة. ولذا فإن تحصين الأسرة يعني تحصين الهوية، والعكس صحيح .
ثالثًا: التحديات المعاصرة في دور الأسرة في الحفاظ على الهوية الثقافية
ومن هنا نتحدث عن الأسرة، في عالم تتسارع فيه التحوّلات الرقمية والاجتماعية، حيث تواجه التحديات عميقة تهدد قدرتها على أداء وظيفتها التقليدية في نقل الهوية الثقافية. لم تعد الأسرة المصدر الحصري أو الأهم للمعلومة، ولا الوسيط الأوحد في تمرير القيم، بل باتت تتقاسم هذا الدور – بل وتُهمّش أحيانًا – لصالح وسائل الإعلام، الإنترنت، المدارس، ووسائط التواصل الاجتماعي. فالصورة والرمز واللغة والنموذج، كلّها أصبحت تُبثّ من خارج النسيج العائلي، وتدخل البيوت دون استئذان، ما جعل عملية بناء الهوية ضمن الأسرة تتعرض إلى "غزو ناعم" دائم.
من أبرز هذه التحديات ما يمكن تسميته بـ"تفكك المرجعيات". فبينما كانت الأسرة تستند إلى تقاليد واضحة، ومرجعيات دينية ومجتمعية راسخة، باتت اليوم تواجه تناقضات تربوية وأخلاقية ناجمة عن تعدد الخطابات، وضياع المعنى، وسيولة القيم. وهذا ما جعل الأب والأم – لا سيما في بيئات الاغتراب – يواجهان حرجًا في الإجابة عن أسئلة الأطفال حول القيم والهوية، وسط فضاء لا يعترف بالمطلقات ولا بالثوابت.
كما أنَّ النماذج السائدة حاليًا في التربية تميل إلى الفردانية والنزعة النفعية، وهو ما يتعارض مع مفهوم الهوية الجماعية التي كانت الأسرة تبنيها عبر التضامن والتكافل والانتماء. يضاف إلى ذلك التحدي الاقتصادي، حيث إن ضغط العمل، وسرعة الإيقاع اليومي، وتقلّص الوقت النوعي داخل الأسرة، كلها تضعف من تماسك النسيج العاطفي، وبالتالي تقل قدرة الأسرة على التأثير العميق.
إنّ هذه التحديات، في مجملها، تستدعي من المربين والباحثين والمجتمعات الدينية وقفة تأملية، تُعيد للأسرة مكانتها كحارس للهوية، لا مجرد ملجأ عضوي .
رابعًا: دور العاطفة في الحفاظ على الهوية الثقافية
العاطفة ليست مجرّد حالة وجدانية عابرة، بل هي بُنية تربوية تؤسّس للانتماء، وتخلق رابطة حية بين الفرد وهويته الثقافية. إنّ ما يُكتسب من خلال الحبّ يتجذّر أعمق مما يُكتسب من خلال الإكراه أو الحفظ الجاف. لهذا، فإنّ العاطفة الأسرية – حين تكون دافئة وصادقة – تصنع البيئة المثالية لتشكّل الانتماء الثقافي، بحيث لا يعود الطفل يردّد مفردات ثقافته لأنّه أُمِر بها، بل لأنّه يحبّها، ويتعلّق بها، ويجد فيها ذاته. وهذا يتقاطع مع ما بيّنه علماء النفس التربوي من أن التعلّم العاطفي يشكّل مدخلًا أعمق وأدوم لبناء المفاهيم والقيم.
وفي السياق الإسلامي، تقوم التربية على محور "الحب" الإلهي والنبوي، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: «أدّبوا أولادكم على حبّنا»[4]، فالتربية بالحبّ ليست مجرّد حيلة تربوية، بل هي سبيل تكويني لترسيخ الانتماء العقائدي والثقافي. كما أنّنا نجد في السيرة النبوية أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كان يحتضن الحسن والحسين ويقبّلهما أمام الناس، ويقول: "من لا يَرحم لا يُرحم"، دلالة على مركزية العاطفة في التربية.
في المقابل، فإنّ فقدان العاطفة، أو تحوّل البيت إلى فضاء بارد وظيفي، يفرز أطفالًا بلا جذور، يبحثون عن "حضن رمزي" في الشارع، أو الإعلام، أو ثقافة السوق، أو حتى في رموز ثقافية بديلة. ومن هنا تتسلل الهويات البديلة عبر الأغاني، الأبطال الخارقين، الموضة، وغيرها من الرموز المستوردة.
وبالتالي، فإنّ العاطفة الأسرية ليست مجرّد ترف وجداني، بل هي جهاز مناعي ثقافي، يقي الطفل من التشرذم والانمحاء، ويصوغ هويته من الداخل.
خامسًا: دور تنمية الحسّ النقدي المبتني على الأسس الإيمانية في الحفاظ على الهوية الثقافية
في مواجهة طوفان الخطابات المتضاربة، والانهيار شبه الكلي للمطلقات الأخلاقية، تبرز الحاجة إلى تكوين "حسّ نقدي إيماني"، يُمكّن الناشئة من التمييز بين الأصيل والدخيل، بين ما يخدم هويّتهم الثقافية وما يطمسها تحت شعارات الانفتاح أو الحرية الزائفة. إنّ تنمية هذا الحسّ لا تعني إشاعة الشكّ في كل شيء، بل تعني تدريب الطفل على مساءلة ما يُعرض عليه من رموز وسرديات وقيم، انطلاقًا من منظومة معرفية إيمانية متماسكة.
تؤكد النظرية التربوية الإسلامية أن الإيمان ليس حالة وجدانية صرفة، بل هو معرفة تُمكّن الإنسان من الرؤية. في القرآن الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وفي آية أخرى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3]. هكذا يرتبط الإيمان بالتفكر، لا بالتلقين، وبالبصيرة، لا العمى، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: 108].
وقد نبّه الإمام علي عليه السلام إلى خطورة التقليد الأعمى، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم حين اتبعوا العالمين، وتركوا العمل بالعلم» (نهج البلاغة). إن هذا التنبيه يحمّل المربي مسؤولية ترسيخ عقل نقدي مؤمن، يرى الأمور ببصيرة قرآنية، ويواجه الثقافات الوافدة لا بخوفٍ أو تبعية، بل بميزان معرفي أخلاقي.
في ضوء الأنثروبولوجيا التربوية، يُعد الحس النقدي أحد أدوات "إعادة التكيّف الثقافي الواعي"، وهو ما يسمح باستيعاب المتغيرات دون التفريط بالثوابت، ويحوّل الهوية من إرث خام إلى وعي حي متفاعل.
سادسًا: دور تفعيل الأنشطة العائلية المتنوعة في الحفاظ على الهوية الثقافية
لا يمكن الحديث عن حماية الهوية الثقافية داخل الأسرة دون الالتفات إلى ممارساتها اليومية والرمزية. فالهوية لا تُنقل عبر المواعظ فقط، بل تتجذّر من خلال التجربة المشتركة والأنشطة التفاعلية التي تجعل من الانتماء ممارسةً حيّة، لا شعارًا مكررًا. وهنا يبرز دور الأنشطة العائلية المتنوعة، التي تعمل كأوعية ثقافية رمزية، يُعاد من خلالها إنتاج الهوية داخل الفضاء المنزلي، بأسلوب مرح، محسوس، وتجريبي.
يشيرُ القرآن الكريم إلى ذلك في سياق الحديث عن إبراهيم وأسرته، حيث تُصوَّر العائلة في طقس تعبّدي مشترك: ﴿رَبَّنَا اجْعَلْنَا مُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا﴾ [إبراهيم: 40]، وهو طلب لتجذير العبودية في الفعل الأسري. كما ورد في وصايا الإمام الصادق عليه السلام: «عودوهم على الصلاة وهم أبناء سبع سنين الخ»[5]، إشارة إلى الطابع العملي المتدرج للتربية.
من الاقتراحات العملية لتفعيل هذه الوظيفة:
هذه الأنشطة، حين تُمارَس بروح محبّة وتشاركية، تُعيد للأبناء الإحساس بالانتماء العضوي إلى ثقافتهم، وتحفظ هويتهم من أن تصبح مجرّد سردية محفوظة بلا أثر وجداني أو يومي.
خاتمة
في ظلّ التحوّلات العنيفة التي تشهدها مجتمعاتنا على المستويات الثقافية والرمزية والتقنية، تغدو الأسرة اليوم في موقع الدفاع لا عن أفرادها فحسب، بل عن البنية العميقة لهويتها الثقافية والدينية. لم تعد المسألة ترفًا تربويًا أو خيارًا بين التقليد والحداثة، بل أصبحت معركة وجودية تُهدَّد فيها مفاهيم الانتماء، وتمحى فيها الذاكرة الجمعية تحت وقع الترفيه المستورد، والتعليم المنفصل عن الذات، والعلاقات الأسرية المفككة.
إنّ الهوية الثقافية ليست معطًى جامدًا، بل نسق حيّ يتشكل في البيئة الأولى، وهي الأسرة، من خلال اللغة، والعاطفة، والممارسة اليومية، والرموز المتداولة في الحياة المشتركة. ولأنّ الأسرة المسلمة ليست بنية حيادية، بل هي جماعة مؤتمنة، فإنّ مسؤوليتها التربوية ترتكز على مرجعية إيمانية تقوم على الحب، والولاية، والبصيرة. وقد استند المقال إلى القرآن الكريم والروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) ليُبرز أنّ التربية ليست تلقينًا، بل استخلاف، وأنّ المحافظة على الهوية تتطلب الحس النقدي المؤمن، والعاطفة الصادقة، والأنشطة التربوية الهادفة.
وبالمقابل، إنّ التحديات التي تواجه الأسرة لا تُواجه بالإنكار أو بالعزلة، بل بالوعي، والتنظيم، وتجديد الخطاب الأسري. الأسرة المعاصرة مطالبة بأن تتحوّل من "نمط دفاعي" إلى "نمط بنائي"، يعيد ترتيب أولويات الزمن العائلي، ويستثمر أدوات العصر، ويستعيد الوصل بالمرجعيات الروحية والمعرفية الأصيلة.
وعليه، فإنّ صيانة الهوية الثقافية تبدأ من البيت، من دفء العلاقة، من محبة اللغة الأم، من المائدة التي تجمع، ومن الإيمان الذي يُضيء بصيرة الأجيال. ففي زمن "تفكيك الإنسان"، تبقى الأسرة المؤمنة ذات الوضوح في مبانيها الإيمانية، ومحورية التعلّق بالولاية لله وأولياء الله الكمّل عليهم السلام، هي الحصن الأخير.
تعليقات