Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

التدبير في المعيشة

التدبير في المعيشة

التدبير في المعيشة

من قواعد التربية الاقتصادية

الشيخ د. محمد باقر كجك[1]

 

تدبير المعيشة يعني: كيفية إدارة شؤون المعيشة من وجهة نظر الإسلام، والقرآن الكريم، ومن وجهة نظر الروايات الشريفة المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام. أي ما يجب اتباعه من سلوك فردي وأسري واجتماعي فيما يتعلق بإدارة المال، وادخار المال، واستثمار المال، والسلوكيات التي لا تناسب مع موضوع إدارة المعيشة وتدبيرها.

 

مقدمة

لكن قبلَ أن أدخل إلى هذا الموضوع، أريد أن أنطلق من فكرة تاسيسية وهي من المباحث الدقيقة جداً، فنحن أحياناً نتعاطى مع قضية العمل – أي بذل الجهد في العمل – على أنه أمر بديهي، إذ من الطبيعي أن يشتغل الإنسان ويعمل.

لكن الحضارات، والجماعات الإنسانية عبر التاريخ – ونحن لسنا في وارد البحث الفلسفي ولا في علم اجتماع، ولكن لا بأس بالإشارة – وقفت عند مسألة العمل: حدوده، قيمه، معناه، شروطه.

فبعض المجتمعات، والحضارات شدّدت على قضية العمل: أهمية العمل، أهمية كسب المال، أهمية الوصول إلى الثراء، وأهمية الوصول إلى الثروة، باعتبار أن الوصول إلى هذا الأمر هو من أهم علامات سعادة الفرد وسعادة المجتمع. وهناك جماعات وفلسفات أخرى بالمقابل، قامت على اعتبار أن العمل أمر مركزي في حياة المجتمع، ولكن بشرط أن الثروة والمال الذي يحصل عليه الفرد لا ينبغي أن يستفيد منه إلا بمقدار محدود.

وهذا ما نراه مثلاً في الاتجاه البروتستانتي في المسيحية؛ فهم يعملون وفقه حتى اليوم، ويشجعون على العمل الخيري، والعمل الذي فيه تبرعات. ولهذا تسمع أن الثري الفلاني، مثلاً، ثروته ستون مليار دولار أو ثمانون مليار دولار، ثم يقوم بالتبرع بها للمؤسسات الخيرية. وهذا ضمن تعاليم المذهب البروتستانتي، وإن لم يكن جميع المسيحيين كذلك.

وهناك أيضاً الماركسيّة والشيوعيَّة، فعندهم نظرة خاصة فيما يتعلق بقضية العمل. فالماركسي أو الشيوعي، لماذا يعمل؟ ومن أجل ماذا يعمل؟ فالشيوعية كمذهب سياسي واقتصادي وفلسفي جعلت قضية العمل قضية مركزية. حتى أن بعض التيارات الشيوعية سمّت نفسها "منظمة العمل والعمال"، وتحدّثت عن "البروليتاريا" وغيرها من المفاهيم. إذن لديهم نظرة خاصة إلى قضية العمل.

وكذلك الرأسمالية الغربية المعاصرة، فلها أيضاً نظرة إلى قضية العمل والعامل، وكيفية علاقة العامل بالإنتاج وبأصحاب رأس المال، وربطت الحرية الفردية بالاقتصاد. وهذه كلها قضايا واسعة في عالم الاقتصاد وإرادة المجتمعات.

وإذا ذهبنا إلى بعض المذاهب المتصوفة، الذين تقوم نظرتهم على أساس الزهد في الدنيا، سنجد أن قيمة العمل الدنيوي وجمع الثروة عندهم قليلة جداً، بل قد تكون منعدمة. لذلك ترى مثلاً في الهند حالياً – وهي تضم ما يقارب ملياراً ومئتي مليون نسمة – اتجاهات وجماعات يعيشون حياة الزهد، فيمكث الواحد منهم عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة على قطعة ثياب واحدة.

وهذا كله راجع إلى نمط ونظرة ذلك المجتمع أو غيره إلى قيمة العمل: إما أن يعطيه قيمة عالية، أو ينزله عن قيمته، فلا يرى فيه أي اعتبار.

 

النظرة الإسلامية للعمل وقيمته

ما هي نظرتنا نحن كمسلمين إلى العمل؟ هذا أمر في غاية الأهمية. هل نعمل من أجل الدنيا فقط؟ أم نعمل من أجل الآخرة فقط؟ أم نعمل من أجل الدنيا والآخرة معاً؟ وإذا كنا نعمل من أجل الدنيا والآخرة، فهل نعمل لمصلحتي الشخصية الفردية فقط، أم لمصلحة الأسرة، أم لمصلحة المجتمع، أم لمصلحة القبيلة أو العائلة أو الحزب الفلاني أو الدولة الفلانية؟ ما هو الهدف من العمل؟ ما هي قيم العمل؟ هل أنا أنافس غيري أم لا؟ هل أعيش وفق منظومة الرئيس والمرؤوس على سبيل المثال؟ وهل أستطيع أن أدّخر المال وأضعه في البنك؟ وإذا وضعت المال في البنك، فهل يكون في بنك ربوي – فنقع فيما وقع فيه لبنان – أم في بنك غير ربوي على سبيل المثال؟ وإذا كان في بنك غير ربوي، فكيف يفيد هذا البنك العمل ويعيد دورة الاقتصاد؟

وهي مباحث دقيقة في عالم الاقتصاد.

 

وأما الإمام الخميني قدس سره، فهو ينظر إلى قضية العمل على أن عمل الإنسان هو أحد تجليات عمل الله سبحانه وتعالى. فالله عز وجل في بداية الخلق أراد أن يعمل عملاً فخلق هذا الكون. فإذاً كل هذا الكون هو تجلٍّ من تجليات عمل الله سبحانه وتعالى. وكل ما يحصل في هذا الكون من أعمال وأفعال هو ببركة تأسيس الله لمنظومة العمل التي يُدار بها هذا الكون، ويُرزق بها هذا الكون، ويُسدّ بها نقصه، وتُسد بها حاجاته وحاجات سكانه.

 

فالبحار وسكانها، الأرض وعمّارها، الغابات، الأنهار، كلها بحاجة إلى منظومة متكاملة من الأسباب والعلل الربانية كي يصل إلى كل جزء من هذا الكون نصيبه.

وطبعاً هناك آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمّى، يدبّر الأمر، يفصّل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون﴾.

لاحظ في هذه الآية – على سبيل المثال – كيف يذكر الله سبحانه وتعالى رفع السماوات بغير عمد، ثم يبيّن فعل التدبير: ﴿يدبّر الأمر﴾. والآيات التي تتحدث عن التدبير وتفصيل الآيات كثيرة جداً. فأول فعل مؤسس ومؤثر في الكون قام به الله سبحانه وتعالى هو فعل الخلق والتدبير.

 

لذلك، يقول بعض العلماء: لولا أن الله سبحانه وتعالى قام بعمل الخلق وفعل الإيجاد، لما كان هناك شيء موجود أصلاً. وهذا من الأدلة على وجود الله سبحانه وتعالى، إذ إن سنخ الفعل الإلهي وطبيعته، وانتظامه في هذا الكون، هو الذي يُبقي الكون قائماً.

 

فأنت، مثلاً، جالس على الكرة الأرضية، ولو صحّ أن نسافر إلى المريخ أو إلى كوكب آخر أو إلى مجموعة أخرى، لاحتجنا للبقاء هناك إلى نفس الأسباب التي نحتاجها هنا. فالله سبحانه وتعالى يحكمنا، ويجعلنا خاضعين لكل ما نحتاجه، ضمن سلسلة الأسباب والعلل والأفعال والتدبير التي لا غنى لنا عنها في هذا الكون.  فلذلك هناك آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿والمدبّرات أمراً﴾.


فالله سبحانه وتعالى – إضافة إلى كونه هو الذي أنشأ الكون وأوجد سلسلة الأسباب والمؤثرات والظروف التي ينبغي أن يسير خلالها – قد أوجد في هذا الكون شيئاً يسمّى "المدبّرات". فالمدبّرات أمراً... إذا لاحظتم كلمة "الأمر" تتكرر: ﴿يفصّل الآيات﴾، ﴿يدبّر الأمر﴾، ﴿والمدبرات أمراً﴾. وكلمة "الأمر" في الفلسفة والعرفان وعلوم القرآن لها مبحث واسع، إذ إن كل شيء خاضع لأمر الله سبحانه وتعالى.

 

الفعل والعمل من الأمر الإلهي

هذا يؤكّد على نظريتنا نحن: أنه لا يمكن أن يصدر فعل من إنسان – كافراً كان أو مؤمناً – إلا بأمر الله سبحانه وتعالى!

وماذا يعني "بأمر الله"؟ يعني "تهيئة الأسباب والمقدّمات والظروف"،  فالإنسان الكافر قد يستغل هذه الظروف ليكفر بالله، مستفيداً مما هيّأه الله له، وهذا شأنه. والإنسان المؤمن قد يستفيد من نفس الظروف فيؤمن بالله، وهذا أيضاً شأنه.

لكن في النهاية، لا أحد – كافراً كان أو مؤمناً، مطيعاً أو عاصياً – يخرج عن أمر الله سبحانه وتعالى، لأن كل المواد التي خلق الله بها الكون، هي نفسها التي يستعملها الإنسان في الطاعة أو المعصية. وبالتالي، كل عمل يجري في هذا الكون – من الإنسان أو من غير الإنسان – راجع إلى تدبير الله سبحانه وتعالى.

 

فإذا أراد واحد منا أن يقوم من مكانه ويذهب إلى البيت، فهذا عمل بسيط. لكن هذا العمل البسيط يحتاج إلى أمور كثيرة ييسّرها الله سبحانه وتعالى له: صحته، روحه، الهواء، الطاقة، عمل أعضاء الجسم، أن لا يؤذيه أحد في الطريق، أن لا يُصاب بالبرق، أن لا تدهسه سيارة أو غيرها... إلى أن يصل بسلام إلى بيته: ﴿فالمدبّرات أمراً﴾. وأحياناً ينام الإنسان في الليل، فيستيقظ صباحاً ليجد من يأتيه بهدية، أو يقضي عنه ديناً، أو يضع له مؤونة أو شيئاً معيناً – صندوق ليمون مثلاً – أمام بيته. فمَن الذي هيّأ هذا الأمر؟ إنها ﴿المدبّرات أمراً﴾.

 

فهناك ملائكة موكّلة بالرزق، وهناك ملائكة موكّلة بالحفظ، وهناك أسباب كونية: غيم، شمس، قمر، نجم، جاذبية، هواء... كلها جنود لله سبحانه وتعالى. وكلها تعبّر عن الإيمان بالنص الذي بين يديه، وتُعتبر كلّها عمالاً عند الله سبحانه وتعالى. فجميعها "عمال عند الله"، وسيد العمال ورب العمل هو الله عز وجل، فهو الذي ينظّم كل هذه الجنود وكل هذه المؤثرات والعناصر من أجل أن يسير هذا الكون بانتظام، ليستفيد منه الإنسان.

أما الإنسان، فعليه أن ينتظم هو أيضاً، فيصبح جزءاً من خطّة الله في العمل، جزءاً من المجموعة العاملة تحت نظر الله سبحانه وتعالى، حتى يتشرّف بأن يكون مندمجاً في قضاء الله وقدره. وهذا طبعاً بحث ثقيل بعض الشيء، لكنني أذكره في البداية كما أراده الإمام الخميني رحمه الله.

فهو يقول: إن العالم كلّه هو يوم العامل. العالم كلّه عامل، ولا يوجد فيه سكون.  و﴿الشمس والقمر يجريان لمستقر لهما﴾، يعني هي كلّها تجري، وكلّه يتحرك، إلى أن يصل إلى الموت، إلى الكمال، إلى الانتقال من الدنيا إلى الآخرة. فكلّه يعمل، حتى الكافر يعمل، وإن كان عمله نزوليا وليس صعودياً.

إذن، الخلاصة: العالم كلّه عامل، والعالم كلّه عمل.

فالإنسان إذا أزاح هذه النظارات التي ينظر بها إلى الدنيا، ونظر بعين أخرى، سيرى أن الجبال، والصحراء، والكواكب، وكل شيء في حركة وعمل مستمر ودؤوب. فحتى الجبل له دور: في تخزين الماء، وفي حفظ الأرض، وفي حفظ التراب. وكذلك الحيوانات – وهي أرفع شأناً من الجماد – لها أعمالها ووظائفها.

فكيف بالإنسان، الذي هو أرفع شأناً من الحيوان؟
وكيف بالإنسان المؤمن، الذي هو أرفع شأناً من الإنسان الكافر؟

وهنا تبدأ منظومة العمل بالظهور داخل الفكر الإسلامي، والنظرية القرآنية الإسلامية الإلهية في تنظيم هذا الكون كما يريده الله سبحانه وتعالى.

 

اندكاك عمل الإنسان بالفعل الإلهي

الآن نأتي إلى الإنسان لكي نقول: طيب، يُتاح للإنسان أن يسير وفق ما يريده الله ، فإذا سار وفق ما أراده الله سبحانه وتعالى، فهذا يعني أنه يتصرّف في هذا الوجود كما يريده الله، وهذا أمر عظيم ومهم.

لأن أمام الإنسان هو دوماً أمام خيارين: إما أن يتصرّف في هذا الوجود كما يريده الله سبحانه وتعالى، أو أن يتصرّف فيه كما لا يريده الله.

 

وهنا نقطتان في غاية الأهمية:

إذا كنتُ أتصرف في هذا الوجود، وفي هذه الخيرات، وفي هذه المقدرات والإمكانات المادية والبشرية والنفسية والمعنوية، كما يريده الله، فهذا يعني أنني عامل من عمّال الله سبحانه وتعالى.

وقد وردت عندنا بعض الروايات التي تشير إلى هذا المعنى. فعلى سبيل المثال: المرأة التي تقوم بخدمة بيتها وزوجها كما يريده الله سبحانه وتعالى، تُسمّى في الرواية "عاملاً من عمّال الله". فننظر إلى هذا التعبير: هي لا تقوم بعمل خارق، إنما تخدم بيتها وأسرتها وزوجها كما يريد الله، فيسمّيها الله عاملاً من عمّاله!

وأما إذا قال الإنسان: "أنا أريد أن أتصرف كما أحبّ، كما أهوى، كما تدفعني شهواتي وغضبي وعطشي للمال والسلطة والشهرة..."، فعندها يكون قد جعل عمله كما يريده هو، لا كما يريده الله سبحانه وتعالى.

وشتّان – أي فرق عظيم – بين ما يريده الله وما يريده الإنسان!

هنا يظهر أن هناك منظومتين أساسيتين في قضية العمل وفي فلسفة العمل:

  • إما أن أعمل وفق ما يريده الله، فأكون مندمجاً في خطّة الله العملية للكون، ومنضوياً في نظامه.
  • أو أن أنفصل وأقول لله سبحانه وتعالى: أنت دبّر الأمر وفصّل الآيات كما تشاء، وأنا سأدبّر أمري وأفصّل الآيات كما أريد!

وأما نحن فنقول في الدعاء: "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً"، لأن القضية كلها بين أمرين:
إما أن يدبّر الله شؤوني، أو أن أُترك لأهوائي فأهلك.

 

العمل والتدبير في المعيشة

 فالله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان فرصة العيش داخل المجتمع والجماعة، والاستفادة منهم. فنحن الآن مثلاً نقف أمام شاب يريد أن يفتح مصلحة صغيرة – كالميكانيكي أو الكهربائي أو صاحب المطعم – فكيف سيستفيد منها إن لم يأتِ الناس إليه؟ فهو لا يستطيع أن يعيش إلا إذا تفاعل مع الناس، والناس استفادوا منه. وهذه المعاملة المتبادلة بينه وبين الناس هي التي تساعده على تدبير أمر معيشته.

 

ولهذا فتح الله سبحانه وتعالى أمام الإنسان فرص أن يكون عنصراً في الجماعة، يستفيد منها ويتعاطى معها.

 

هناك مجموعة من الأحكام الشرعية التي تنظّم هذه المعاملة بين الناس. فنحن في الرسالة العملية نجد شيئاً اسمه المعاملات: كالتجارة، والإجارة، والبيع، والشراء، والدَّين، والقرض، والهبة، والمزارعة، والمساقات... وكل هذه الأحكام الشرعية جاءت لتنظّم أمر الإنسان وحياته المعيشية!

 

واليوم، فقد أصبحت الحياة معقّدة جداً. وأي تغيير في معطى اقتصادي في دولة ما يؤثر على بقية الدول. وأضرب مثالاً على هذا الموضوع: كما حصل في أوكرانيا – على سبيل المثال – عندما اندلعت الأزمة. فنشأت أزمة قمح عالمية، فبادرت دول العالم الأول – الغربيون – بما أن لديهم المال، إلى شراء مخزون هائل من القمح، لأنهم قادرون على دفع أثمان أعلى. وأمَّا بقية شعوب العالم، ولا سيما دول العالم الثالث بحسب تصنيفهم السيئ، فلم تتمكّن من شراء القمح.

 

فانظر كيف أن تفصيلاً صغيراً – حرباً محدودة في مكان يبعد عنا آلاف الكيلومترات – أثّر على كل الناس في العالم!

هذا الأمر يحتاج من الإنسان المؤمن أن يصبح أذكى في فهم كيفية تدبير أموره:

  •  كيف يستفيد من قوته، ومن إمكاناته، ومن ما عنده من موارد؟
  • وكيف يستفيد من قوة الإسلام والمسلمين وطاقاتهم؟

وهذا يحتاج إلى ذكاء عالٍ جداً. ونحن لا يجوز لنا أن نتعامل مع الحياة ببساطة وسذاجة، وقد يقول قائل: نحن في بلدٍ صغيرٍ، فماذا نملك من إمكانات؟ لكن بالعكس، هناك طروحات في العالم الغربي اليوم تدعو إلى اللامركزية: أي أن القرية مثلاً تستطيع أن تنتج، بالزراعة أو ببعض الصناعات الصغيرة، وتكون مكتفية ذاتياً أكثر من كونها تابعة لدولة مركزية ضخمة.

 

لأنه في لحظة سقوط الدولة المركزية، يموت الناس من الجوع!

ومن هنا نجد أن تدبير الأمور وتنظيم المعيشة أمر عظيم جداً، حتى إن القرآن الكريم أكّد على هذا الأمر في موارد كثيرة. وكذلك في الروايات: فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله:
"لا يصلح المؤمن إلا على ثلاث خصال: التفقّه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على النوائب".

 

يعني: إذا صار عنده فقه في الدين، فأموره الشرعية صحيحة، يفعل الحلال ويترك الحرام في التجارة والصناعة والزواج والحياة. وهو بالإضافة إلى الفقه في الدين، هو بحاجة إلى حسن التقدير في المعيشة: يعرف كم يُنفق، وكم يُنتج، وكم يُدّخر، وكم يستثمر. ومتى يُنفق المال، ومتى لا يُنفقه.
متى يستدين، ومتى لا يستدين. متى يُقرض، ومتى لا يُقرض.
وهل يُنفق على الكماليات أو على الضروريات؟
هل يعمّر الآن أو يستثمر لاحقاً؟
هل يستأجر أو يشتري بيتاً؟

هذا هو ما يُسمّى تقدير المعيشة. إذن، تدبير شؤون الحياة حقيقةً أمر عظيم جداً. فهو واحد من الأمور التي تجعل الإنسان المؤمن قوياً، ثابت الحال.

وأن يعرف كيف ينظّم أموره المالية والمعيشية بدقّة، فهذا فهم وعلم ودقّة!

وطبعاً، في الروايات عندنا إشارات كثيرة إلى هذا الموضوع. وأذكر رواية أخيرة: جاء أحدهم إلى الإمام الصادق عليه السلام، فقال له الإمام:  "بلغني أن الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب".

أي أن نصف المال أو الثروة التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان تأتي من الاقتصاد والتعامل الدقيق في الأمور، ومن التدبير الكبير في المعيشة. فالبعض – مثلاً – يذهب خمس مرات في الشهر إلى المطعم. بينما لو أكل في البيت بهذه المبالغ نفسها، لَكفَتْه خمسة عشر يوماً!
وفي نهاية الشهر يجد نفسه مَديناً! هذا سوء تدبير في المعيشة.

ومثال آخر: نجد أحدهم قادر أن يشتري – أكرمكم الله – حذاءً بمبلغٍ مقبول، لكنه يذهب فيشتريه بمائتي دولار! وهذا أيضاً سوء تدبير في المعيشة، لأنه لا يُحسن النظر في الأولويات.

 

فقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا، بل هو الكسب كله". أي أن التدبير في المعيشة ليس نصف الكسب فقط، بل هو الكسب كله.. فكأنك عندما تُحسن تدبير مالك وتنظيم صرفه، فكأنك قد أنتجت المال نفسه!
إذن، التدبير في المعيشة هو عين الإنتاج، وهو جزء لا يتجزأ من الدين. ولهذا قال الإمام عليه السلام: "ومن الدين التدبير في المعيشة".

 

إن الفرص موجودة، ولا يجوز لأحد أن يقول: "لا توجد فرص".


فالإنسان دائماً يستطيع أن يخلق الفرص بطريقة أو بأخرى: ببذل المال، أو ببذل الوقت، أو ببذل الجهد، أو بالتخطيط، أو بالتفكير، أو بالصبر. فلا أحد يستطيع أن يجني المال من دون صبر، ومن دون تخطيط، ومن دون تدبير، ومن دون اكتساب معرفة ومهارة.

 

 

خاتمة

ولآن نحن في هذا الظرف الصعب علينا أن نتكاتف أكثر فأكثر، وأن نلجأ إلى روايات أهل البيت عليهم السلام ومدرسة أهل البيت، لنرى كيف يُرشدوننا إلى كيفية إدارة حياتنا: كيف نستفيد من أعمارنا، وكيف نستفيد من الفرص التي بين أيدينا.

 

فكل واحد منّا يملك فرصة هنا أو هناك، ويستطيع أن يخلق فرصة ما في مكان ما، مهما كان وضعه. هذا في حين أننا نرى بعض الناس المصابين بنقص في الأعضاء، أو بعاهات جسدية، ومع ذلك يعملون ويكدحون ويأكلون من تعبهم. فهم يصبرون ويتحملون المشقة، ومع ذلك يثبتون في الميدان.
وهذا أفضل بكثير من الجلوس بلا عمل وعدم سعي.

فما بال الشاب الصحيح الجسد، السليم العقل، إذا ضيّع وقته ولم يستثمره، وأهدر الفرص المتاحة أمامه؟

إذن، من الدين التدبير في المعيشة!

 

 

 

[1]  أستاذ جامعي، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية، بيروت.

مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape