Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

مراجعة نقدية لكتاب روح الطفل  

مراجعة نقدية لكتاب روح الطفل  

مراجعة نقدية لكتاب روح الطفل  

لديفيد هاي وريبيكا ناي

The Spirit of the Child

David Hay, Rebecca Nyea

 

يُعَدّ كتاب روح الطفل (The Spirit of the Child)  لديفيد هاي وريبيكا ناي واحدًا من أبرز الإسهامات في دراسة التربيّة الإيمانيّة والتوجّه المعنوي لدى الأطفال. نُشر لأول مرة عام 1998، ثم أُعيدت مراجعته عام 2006، وظهر في فترة كانت السياسات التعليمية في بريطانيا ودول غربية أخرى تتشكّل فيها بشكل متزايد وفق مقاييس كمية وأجندات علمانية، مما ترك حيزًا ضيقًا لأسئلة "المعنى والإيمان والسموّ المعنوي". في هذا السياق، يبحث هاي وناي حول أنّ المعنويّة ليست هامشية ولا اختيارية في حياة الأطفال، بلْ هي بُعد أساسيٌّ من أبعاد النموّ الإنسانيّ، حاضرٌ منذ سن مبكرة، ويحتاج إلى رعاية مقصودة حتّى لا يُطمَس تحت ضغط المجتمع.

 

 

فالأطروحة المركزية للكتاب هي أن المعنوية بُعد فطري من أبعاد النمو الإنساني، يظهر جليًا حتى عند الأطفال الصغار، وأن تجاهله في السياقات التعليمية يُضعف النمو الشخصي والتماسك الاجتماعي معًا. وقد ميّز هاي وناي بعناية بين الدين—بوصفه نظامًا مؤسسيًا وعقائديًا—وبين المعنوية التي يعرّفانها من خلال خبرات الأطفال الحية بالدهشة والانبهار والمعنى والارتباط.

 

ومن أبرز إسهامات الكتاب تطوير مفهوم الوعي العلائقي، الذي نشأ من خلال ثلاث سنوات من المقابلات والملاحظات النوعية مع الأطفال. هذا الإطار يلتقط وعي الأطفال بالعلاقة في أربعة اتجاهات: مع الذات، ومع الآخرين، ومع الطبيعة، ومع المتجاوز أو الحقيقة النهائية. ومن خلال إبراز هذه الأبعاد العلائقية، يمنح المؤلفان المربين وسيلة للاعتراف بالمعنوية ورعايتها دون اختزالها في التلقين الديني.

 

وأما الأساس التجريبي للدراسة فيُعَدّ نقطة قوة إضافية، إذ منح هاي وناي اهتمامًا كبيرًا لأصوات الأطفال أنفسهم، مستشهدين بكلماتهم وقصصهم لإظهار كيف تتجلى المعنوية في الواقع. هذه السرديات الغنية تضفي طابعًا إنسانيًا على الحجة وتجعل من الصعب تجاهل المعنوية باعتبارها مجرد تجريد أو إسقاط للكبار.

 

وفي الوقت نفسه، لا يخلو الكتاب من بعض المحدودية، فعندما يبحث في مفهوم الوعي العلائقي، فإننا نجد وعلى الرغم من قوته الإيحائية، إلا أنه يواجه خطر أن يصبح واسعًا أكثر من اللازم؛ إذ يتداخل أحيانًا مع الخبرات النفسية أو العاطفية أو الجمالية، مما يثير تساؤلات حول ما يُعَدّ "روحانيًا ومعنوياً" بالمعنى الدقيق. كما أن الدراسة تعكس سياقًا ثقافيًا غربيًا ذا خلفية "مسيحية" في الغالب. وبينما يشير المؤلفان إلى طابع كوني للروحانية والمعنوية، إلا أن دعم هذا الادعاء يحتاج إلى بيانات أكثر تنوعًا عابرة للثقافات، تُظهر كيف يعبّر الأطفال في تقاليد أخرى عن حياتهم المعنوية.

 

ومن منظور السياسات والمناهج التربوية، يُعَدّ كتاب "روح الطفل" أقرب إلى الطموح والرؤية منه إلى الدليل العملي. فهو يدعو المدارس إلى تنمية المعنوية عبر المناهج وأجواء المدرسة العامة، لكنه يقدّم توجيهًا أقل وضوحًا حول كيفية التوفيق بين هذه الجهود وبين مقتضيات التعليم العلماني والتعددي. كما أنه لا يعالج مسألة كيفية تقييم النمو الروحي أو النتائج التي ينبغي أن يتوقعها المربّون، بشكل كاملٍ.

 

ورغم هذه الانتقادات، يبقى الكتاب نصًا تأسيسيًا في مجاله. فهو يقاوم اختزال التعليم في نتائجه المعرفية والتقنية، مذكّرًا بأن الأطفال أشخاص متكاملون لهم حياة داخلية وأسئلة وجودية. وبالنسبة للمربين واللاهوتيين وواضعي السياسات المهتمين بالنمو الأخلاقي والتربية الشاملة، يظل عمل هاي وناي مصدر إلهام وتحدٍ في آن واحد.

 

 

المعنوية خارج الدين

من الإسهامات الباقية للكتاب تمييزه بين المعنويّة والدين، فالدّين عند هاي وناي هو نظام مؤسسيّ من المعتقدات والممارسات والتَّقاليد، أما التربية المعنويّة فهي أوسع بكثير، وتشير إلى خبرات الطفل المعيشة من الدهشة والانبهار والسرّ والترابط والمعنى، هذا الفصل المفاهيمي جوهري، إذ يمكّن المؤلفَين من الدّفاع عن شرعية التربية المعنوية في البيئات التعليمية دون اختزالها في التلقين الديني والتربية النصّية. وبمعنى آخر، يمكن "تنمية المعنوية لدى الأطفال حتى في المدارس العلمانية"، لأنّها لا تتعلق بنقل العقائد بقدر ما تتعلق بالاعتراف ببُعد من الوعي يعبِّرُ عنه الأطفال بطبيعتهم.

 

هذه الخطوة جريئة واستراتيجية في آن معًا! فمن خلال إعادة صياغة المعنوية بمفاهيم خبراتية بدلًا من مفاهيم عقائدية، يقدّم هاي وناي التربية المعنوية بوصفها ظاهرة إنسانية كونية وليست تطبيقاً لتقاليد إيمانية وعقائدية بعينها. وهذا يساعد على تجاوز الاعتراضات الشائعة التي تقول إن المدارس العامة لا يمكنها "تدريس الدين". وبدلًا من ذلك، يقترحان الاعتراف بالمعنوية كرصيد إنساني مشترك، أساسي لازدهار الأطفال أخلاقيًا وعاطفيًا.

 

 

الوعي العلائقي: المفهوم المحوري

ربما أكثر الأفكار أصالة في الكتاب هي مفهوم الوعي العلائقي(Relational Consciousness) ، وقد طوّرته "ناي" بالأساس عبر ثلاث سنوات من البحث النوعي مع الأطفال، ليصف الطريقة المميزة التي يعبّر بها الأطفال عن وعيهم الروحي. يشير الوعي العلائقي إلى إدراك معمّق للعلاقة في أربعة مجالات:

  1. العلاقة مع الذات: وعي أعمق بالذات، أسئلة حول الهوية، وحساسية تجاه المشاعر الداخلية.
  2. العلاقة مع الآخرين: إدراك للتعاطف والعدل والمسؤولية الأخلاقية.
  3. العلاقة مع العالم الطبيعي: مشاعر رهبة أمام الطبيعة، انبهار بالجمال، أو إحساس بالترابط البيئي.
  4. العلاقة مع المتجاوز أو المطلق: انفتاح على الله، أو على الإلهي، أو على حقيقة نهائية تتجاوز العالم المادي.
  5. من خلال تأطير المعنوية في بُعد علائقي، يقدّم هاي وناي مفردات يمكن للمعلمين الوصول إليها بسهولة، وفي الوقت نفسه شاملة للتقاليد المختلفة. فهذا الطرح يتجنب التعريفات اللاهوتية الضيقة، ومع ذلك يلتقط شيئًا أعمق من مجرد الذكاء العاطفي أو التفكير الأخلاقي. إن روحانية ومعنوية الأطفال، بهذا المعنى، ليست تأملًا نظريًا مجردًا، وإنما هي أسلوب عيش من الترابط يُشكّل طريقتهم للانخراط في العالم.

 

المنهجيّة البحثيَّة

يقوم الكتاب على بحثٍ نوعي وتجريبي، ما يضفي وزنًا كبيرًا على أطروحاته. فعلى مدى ثلاث سنوات، أجرى المؤلفان مقابلات مع الأطفال، داعين إياهم للحديث عن خبراتهم وآمالهم ومخاوفهم ورؤيتهم للعالم. وبدلًا من فرض تصنيفات الكبار، حاول الباحثان الإصغاء بعناية إلى لغة الأطفال أنفسهم. وما برز من هذه السرديات كان لافتًا: إذ تبيّن أن الأطفال قادرون على التعبير عن أسئلة عميقة حول الوجود والموت والغاية والسرّ، وغالبًا بطرق تُفاجئ الكبار.

 

وعلى سبيل المثال، وصف الأطفال لحظات رهبة أمام الطبيعة، ومشاعر قرب من الله، وحساسية تجاه العدل والإنصاف في علاقاتهم. هذه ليست مجرد انعكاسات أخلاقية أو نفسية، بل تحمل عمقًا في المعنى يشير إلى وعي روحي. مثل هذه الأمثلة تشكّل قاعدة تجريبية غنية تدعم الطروحات النظرية، وتجعل الكتاب ذا مصداقية أكاديمية وقيمة تربوية واضحة.

 

 

النتائج والدلالات

تشير النتائج إلى أن روحانية ومعنوية الأطفال حقيقية لكنها هشّة في آن واحد. فهي حقيقية بمعنى أن الأطفال يظهرون علامات واضحة على الوعي الروحي في وقت مبكر من حياتهم. وهي هشّة لأن الضغوط الاجتماعية -مثل تقليد الأقران، والأنظمة التعليمية العلمانية، وثقافة الاستهلاك- غالبًا ما تدفع الأطفال إلى كبت هذا البُعد أو إخفائه مع التقدّم في العمر. وحوالي سن العاشرة وما بعدها، قد يشعر الأطفال بالحرج من الحديث عن خبراتهم المعنوية خوفًا من السخرية أو سوء الفهم، يرى هاي وناي أن هذا يمثل خسارة مأساوية: إذ يعني إسكات بُعد إنساني أساسي تحت ثقل الحداثة العلمانية.

 

ومن منظور تربوي، فإنَّ الدلالات عميقة! إذ يدعو المؤلفان المدارس إلى الاعتراف بالمعنوية كجزء مركزي من التربية الشاملة. وهذا لا يعني تحويل المدارس إلى مؤسسات دينية، بل خلق فضاءات للتأمل والدهشة وطرح الأسئلة والحوار. إذ ينبغي على المعلمين أن يكونوا مستمعين يقظين، قادرين على تثمين خبرات الأطفال دون فرضها في قوالب عقائدية جامدة. كما يجب أن تتيح المناهج فرصًا لاستكشاف المعنى والسموّ عبر التخصصات المختلفة من الأدب والفن إلى العلوم والدراسات البيئية.

 

نقاط قوة الكتاب

  1. الارتكاز إلى التجربة : استخدام أصوات الأطفال أنفسهم يجعل الحجة مقنعة وأصيلة، فهو ثمرة إصغاء دقيق لتجارب الأطفال الحية.
  2. الابتكار المفاهيمي: فكرة "الوعي العلائقي" أصبحت حجر زاوية في مجال دراسة المعنوية عند الأطفال، واستُشهد بها على نطاق واسع وأثّرت في أبحاث لاحقة.
  3. الملاءمة العملية: يخاطب الكتاب المربين وصنّاع القرار والآباء مباشرة، مقدّمًا رؤى نظرية ورؤية لتطبيقها في الممارسة التربوية.
  4. التدخّل في الوقت المناسب: في عصر تهيمن فيه المقاييس الكمية والمقاربات النفعية للتعليم، يذكّرنا الكتاب بالأبعاد الإنسانية العميقة للتربية التي لا يمكن اختزالها في أرقام أو نتائج قابلة للقياس.

 

أوجه الضعف والانتقادات

على الرغم من قوة الكتاب، إلا أنه لا يخلو من بعض المحدوديات:

  • الغموض المفاهيمي: مع أن مفهوم "الوعي العلائقي" مثير وملهم، إلا أنه قد يصبح فضفاضًا أكثر من اللازم. فالعديد من الظواهر التي يصفها -مثل التعاطف، والوعي بالذات، والتذوق الجمالي- يمكن تصنيفها كظواهر نفسية أو عاطفية، أكثر من كونها روحانية بحتة. وهنا يتداخل الحد الفاصل أحيانًا بين الروحاني والمعنوي والنّفسي.
  • القيود الثقافية: يستند البحث بالأساس إلى سياق غربي ذي خلفية مسيحية. وعلى الرغم من أن المؤلفين يدّعيان الكونية، إلا أنه من غير الواضح كيف سيعبر الأطفال من ثقافات غير غربية، أو أولئك الذين نشأوا خارج الأطر الدينية، عن روحانيتهم. إن اتباع مقاربة مقارنة عابرة للثقافات كان سيقوي الادعاء بالشمولية والعالمية.
  • صعوبات التطبيق: يتميّز الكتاب برؤية غنية لكنه ضعيف في تقديم استراتيجيات عملية واضحة. كيف يمكن للمدارس العلمانية أو التعددية، على سبيل المثال، أن تدمج تنمية المعنوية من دون الانزلاق نحو التلقين؟ وكيف يمكن تدريب المعلّمين على رعاية المعنوية بمسؤولية؟ هذه أسئلة يطرحها الكتاب لكنه لا يقدّم إجابات شافية عنها.
  • التقويم والنتائج: في سياقات التعليم التي يحكمها صانعو السياسات، يُطلب من المربين إثبات النتائج. ورغم أن الكتاب يدافع عن أهمية المعنوية، فإنه لا يقدم أدلة كافية على فوائدها القابلة للقياس. وقد بدأت أبحاث لاحقة في سد هذه الفجوة، لكنها تبقى نقطة ضعف في العمل الأصلي.

 

كخلاصة

يُعَدّ كتاب "روح الطفل" نصًا تأسيسيًا في دراسة المعنوية لدى الأطفال. لقد فتح آفاقًا جديدة من خلال الإصغاء الجاد للأطفال، والتمييز بين المعنوية والدين، وتقديم "الوعي العلائقي" كأداة مفاهيمية. وهو يتحدى المربين أن يعاملوا الأطفال ككائنات متكاملة، وليس كمتعلمين معرفيين، وأن يهيئوا بيئات تعليمية تأخذ البعد المعنوي على محمل الجد.

ومع ذلك، فإن أفضل طريقة لقراءة الكتاب هي اعتباره دعوة واستفزازًا للتفكير، مع التأكيد على أنه ليس منتوجاً معرفياً نهائيًا. فرؤيته ملهمة، لكنها تحتاج إلى مزيد من التطوير: تعريفات أوضح، تحقق عبر الثقافات، نماذج تربوية عملية، وأدلة على النتائج الواقعية. وللباحثين يقدّم أساسًا نظريًا قويًا، أما للمربين فإنه يفتح نقاشًا ضروريًا حول معنى التربية المتكاملة للطفل.

في نهاية المطاف، يذكّرنا "هاي وناي" بأن إسكات روحانية الأطفال ومعنويتهم يعني أننا نخاطر بإسكات شيء أساسي من إنسانيتهم. فمنح "صوت لروح الطفل" يفتح الباب أمام رؤية أعمق وأغنى وأكثر إنسانية للتربية.

وخلاصة القول: إن كتاب روح الطفل يستحق سمعته بوصفه نصًا كلاسيكيًا في مجال المعنوية لدى الأطفال. فهو يُبرز البُعد المهمل للروحانية في الطفولة، ويدعو إلى تربية تحترم العمق الوجداني والروحي لوعي الأطفال. ومع ذلك، فإن رؤيته ما تزال بحاجة إلى مزيد من التطوير—خصوصًا عبر الأبحاث المقارنة بين الثقافات، والنماذج التربوية العملية، والتحقق التجريبي—حتى تتحقق فاعليته في الصفوف الدراسية المعاصرة المتنوعة. وكذلك، فإنّ المقارنة المطلوبة مع الرؤية التأصيلية في التربية الإيمانية التي نعتقد بقيامها على أسس معرفية وفلسفية وإيمانية شاملة وقوية وهي قائمة على مبادئ إنسانية، كاختيارية الإيمان، ثم القناعة العقلية بشموليته لجميع أبعاد الشخصية الإنسانية، وميادين الحياة التربوية المتنوعة.

 

[1]  متخصص في مناهج التربية، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية، بيروت.

آخر تحديث : 2025-09-30
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape