Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

التربية الإسلامية في الأسرة  من التنشئة التقليدية إلى المناهج التربوية المعاصرة

  • منذ 3 أيام
  • 107
التربية الإسلامية في الأسرة  من التنشئة التقليدية إلى المناهج التربوية المعاصرة

التربية الإسلامية في الأسرة

 من التنشئة التقليدية إلى المناهج التربوية المعاصرة

 

د. محمد باقر كجك[1]

 

المقدمة

تُعدُّ الأسرة في البناء التربوي الإسلامي الفضاء الأول الذي تُغرس فيه البذور الأولى للهوية والقيم والمعنى، إذ تتكفّل الأسرة منذ الطفولة المبكرة بمهمة التشكيل الأخلاقي والعقدي والسلوكي للفرد. وقد أثبتت النظريات التربوية الحديثة—بما فيها النظريات النمائية والتحفيزية والتعلم الاجتماعي—أن السنوات الأولى من حياة الطفل هي الأكثر تأثيراً في تكوين شخصيته الوجدانية والمعرفية، ما يجعل من الأسرة فاعلاً أساسياً في تحديد اتجاهات الفرد وقابلياته اللاحقة في الانتماء والتفاعل والاختيار. وفي السياق الإسلامي، يتجاوز الدور التربوي للأسرة هذا المعنى النفسي والسلوكي، ليصبح فعلاً تعبودياً مؤسساً على مبدأ الاستخلاف الإلهي، حيث يُناط بالوالدين أداء رسالة وجودية تتجاوز الإعداد الاجتماعي إلى التزكية الروحية والسير بالطفل نحو الكمال الإنساني الممكن.

 

مع ذلك، فإن التحولات العميقة التي شهدها الفضاء التربوي المعاصر—من سيولة في الأدوار الأسرية، وتعدد في وسائط التأثير، إلى تغوّل المنظومات الإعلامية والتقنية، وتفكك المرجعيات الأخلاقية—أنتجت تحديات غير مسبوقة أمام الأسرة المسلمة. فقد أصبح الطفل يتلقى رسائل تربوية متنافرة من مصادر متزامنة، تُصاغ بلغة مادية محايدة، وتفصل بين المعرفة والهوية، وبين الأداء والنية. الأمر الذي يضع النسق التربوي الإسلامي التقليدي موضع مراجعة، ويطرح بإلحاح ضرورة تطوير منهج تربوي أسري يجمع بين أصالة التصوّر الإسلامي ورحابة التجديد التربوي.

 

من هنا، تأتي هذه الدراسة لتفحص جدلية العلاقة بين التربية الإسلامية الأسرية في نسقها التقليدي، والمناهج التربوية المعاصرة من جهة، ولتطرح من جهة أخرى معالم مشروع تربوي متجدد، يستلهم من النص الديني ومن الفكر الإسلامي الفلسفي والتربوي—كما عند خسرو باقري ومصباح اليزدي—رؤية متكاملة لدور الأسرة في بناء الإنسان المسلم في زمن التحوّلات المعرفية والقيمية. كما تندرج المقالة ضمن محاولة لتقديم معالجة تربوية إسلامية علمية، تستفيد من نتائج علم النفس التربوي والاجتماع الثقافي، دون أن تنفصل عن مرجعيتها العقدية الأصيلة.

 

 

أولاً: الأسرة في المنظور الإسلامي: النشأة والوظيفة التربوية

تُعدُّ الأسرة في التصور الإسلامي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، والميدان الأول لتشكيل الشخصية الإنسانية المتكاملة. فهي ليست مجرد رابطة اجتماعية، بل كيان مقدس يُؤسس على المودة والرحمة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: 21). ويُشير هذا النص القرآني إلى أن السكينة والمودة والرحمة هي الأسس التي تقوم عليها الأسرة، مما يجعلها بيئة خصبة للتربية والتنشئة.[2]

 

في هذا السياق، نؤكد أن التربية داخل الأسرة ليست مجرد نقل للمعلومات أو تعليم للسلوكيات، بل هي عملية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الصالح الذي يعيش وفق القيم الإسلامية، حيث السكينة الأسرية التي جعلها الله هدفاً، هي سكينة تقوم على حفظ القيم التربوية الأصيلة وانتقالها عبر الأجيال.

 

فدور الأم المحوري في العملية التربوية، نابعٌ من كونها قلب المجتمع، ومركز حياته وبقائه، فكما أنّ القلب في الجسم البشري مركز حياة، وديمومة بقاء واستمرار، كذلك الأم قلب المجتمع.  وهذا يُبرز أهمية الدور الذي تلعبه الأم في نقل القيم والمبادئ الإسلامية إلى الأبناء، مما يُسهم في بناء مجتمع متماسك ومؤمن.[3]

 

من جهة أخرى، فالأسرة في الإسلام تُعتبر مشروعًا تكامليًا للإنسان، حيث تُؤدي دورًا فعّالًا في اتّزان الأفراد وازدهار المجتمعات.  لذلك فإن التربية الأسرية بأبعادها المتعددة لها أولوية في بناء وتحصين الأسرة الصالحة. بالتالي، فإن الأسرة في المنظور الإسلامي ليست مجرد وحدة اجتماعية، بل هي مؤسسة تربوية متكاملة تُسهم في بناء الإنسان الصالح والمجتمع المتماسك، من خلال غرس القيم والمبادئ الإسلامية في نفوس الأبناء منذ نعومة أظفارهم.

 

 

ثانياً: معالم التنشئة التقليدية داخل الأسرة المسلمة، بين التلقين والتزكية

تُعدُّ التنشئة التقليدية داخل الأسرة المسلمة جزءًا من إرثٍ حضاري قائم على ثنائية "العقيدة والسلوك"، حيث تتداخل القيم الإيمانية مع الحياة اليومية لتشكّل نمطًا تربويًّا حيًّا، لا يقوم فقط على الأمر والنهي، بل على القدوة والمجالسة، والاحتكاك المستمر مع العاطفة والذاكرة الطقوسية. ووفقًا لخسرو باقري، فإن التربية لا تُفهم بمعزلٍ عن "الهوية التوحيدية" للإنسان؛ بل هي مسار متكامل يعكس العلاقة بين العبودية والحرية، ويؤسس للوجود الإنساني باعتباره مشروعًا للوصول إلى الكمال الممكن، عبر "المعرفة بالله، والعمل الصالح" (باقري، 2011).

 

وقد بُنيت هذه المنظومة التربوية الأسرية على أربع دعائم جوهرية:

  1. مركزية النية: فالفعل التربوي ليس تقنيًا، بل قصدًا وجوديًا، وهو ما يجعل الأم والأب وكل من يشارك في التربية بمثابة وكلاء عن الله في التزكية.
  2. نقل القيم من خلال القدوة: حيث يتجسد مفهوم "التربية بالفعل" (practical pedagogy) لا من خلال الخطاب الوعظي، بل عبر الممارسة.
  3. الربط بين السلوك وغايات الوجود: فتفسير الأوامر والنواهي الدينية يرتبط دائمًا بـمفهوم "النجاة" و"المقامات المعنوية"، وليس فقط بالنظام الأخلاقي الاجتماعي.
  4. توظيف العبادة: كصلاة الجماعة، والصيام، والدعاء، التي كانت تشكل ذاكرة عبادية محفّزة للارتباط بالله والآخرين.

 

ووفق مصباح اليزدي، فإن جوهر التربية الإيمانية التقليدية هو "تهذيب النفس" اي تربيتها لتصبح شبيهة بالأرض القابلة للزراعة، فالتربية هي غرس الإيمان فيها وتنمية الاستعداد الفطري للعبودية. فالمربي الحق، بحسب تعبيره، هو من "يسعى لتمكين المتربي من التعرف على موقعه الوجودي، لا فقط على واجباته الأخلاقية" (مصباح اليزدي، 2008).

 

في هذا السياق، لم تكن الأسرة المسلمة مجرّد ناظم اجتماعي أو وحدة تعليمية، بل كانت وحدة معرفية ومعنوية تُعيد إنتاج العالم الرمزي الإسلامي في الطفل، وتغرس فيه الإحساس بالعهد الإلهي (ألست بربّكم...)، وتحفّزه على السير في طريق الرجوع إلى الأصل الإلهي.

 

 

ثالثاً: المأزق المعاصر: حين تنفصل المناهج عن الروح التربوية

مع التحوّل الحاد في أنماط الحياة الأسرية وانتقال التربية من الفعل الحي إلى الوسيط الإلكتروني، ومن النسق القيمي إلى الأوامر الإدارية، دخلت الأسر المسلمة في مأزق خطير، يتمثّل في "تفكّك البنية الوجودية للعمل التربوي"، كما يصفه باقري. فقد غزت المناهج التربوية المستوردة البيوت المسلمة، لا بوصفها أدوات مساعدة على التربية، بل بوصفها بدائل للمربي والنية والقدوة، مما أدّى إلى تفريغ العملية التربوية من بعدها الرمزي والمعنوي، وتحويل الطفل إلى متلقٍ غير فاعل.

 

ومن هنا، يؤكّد خسرو باقري أن الخطأ الجوهري في المناهج التربوية الغربية الحديثة لا يكمن فقط في أدواتها، بل في موقفها الأنطولوجي من الإنسان، حيث يُختزل المتربي إلى كائن بيولوجي-نفسي قابل للبرمجة والتكيّف، دون أن يُعترف بقدسيته أو مسؤوليته الوجودية. في حين أن التربية الإسلامية تنطلق من تعريف الإنسان بأنه "كائن اختياري يسعى نحو الكمال المطلق، ويمتلك قدرة إدراكية وأخلاقية تؤهله لبلوغ مقام القرب الإلهي" (باقري، 2013). ومن ثم فإن أي عملية تربوية لا تأخذ في اعتبارها هذا "المنطلق الوجودي"، ستنتهي إلى تقزيم الإنسان لا تحريره.

 

وأما الشيخ المصباح اليزدي، فيُشدّد على أن التربية التي تنفصل عن "الولاية الإلهية" تفقد معياريتها الأخلاقية، إذ لا يمكن تربية إنسان صالح من دون منظومة مرجعية حاكمة للخير والشر، وهذه المرجعية لا بد أن تُستمد من الوحي والعقل المتأدب به (مصباح، 2008). فالمناهج التربوية التي تُبنى على النفعية أو اللذة أو النجاح الاقتصادي فقط، تنتج أنماطًا هشّة من الشخصية، تُحسن التكيّف مع السوق، لكنها تفشل في الإجابة عن سؤال الغاية. لذلك، فإن هذا المأزق لا يرتبط فقط باختراق المناهج الغربية، بل أيضًا بضعف التكوين المعنوي للمربين أنفسهم داخل الأسر، حيث تحول كثير منهم إلى مشرفين إداريين أو مراقبين سلوكيين، وفقدوا الإحساس بأنهم "ولاةٌ على النفوس المؤتمنة" و"أمناء على مشروع إلهيّ داخل الجسد".

 

 

رابعًا: نحو منهج تربوي موجه للأسرة، في ضرورة الإفادة من منهج الإمام الخميني في تزكية النفس

رغم التأكيد المتزايد على دور الأسرة في أدبيات التربية الحديثة، لا تزال المناهج الموجهة للأسر المسلمة قاصرة عن تلبية متطلبات الواقع المتغير، وغالبًا ما تُختزل في إرشادات جزئية أو برامج سلوكية ظرفية، دون أن ترتكز إلى فلسفة تربوية معرفية متكاملة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى بناء مناهج أسرية حديثة ذات جذور معرفية أصيلة، تنبع من الرؤية الإسلامية العميقة للإنسان، وتقوم على تصور تكاملي للعلاقة بين المربي، والمتربي، والمنظومة الوجودية بكاملها.

 

إن المرجعية الإسلامية، وبخاصة العرفان الإسلامي كما تمثّل في سلوك الإمام الخميني، تُقدّم رؤية عميقة للتربية من الداخل، إذ لا تبدأ بالتلميذ، بل تبدأ بـ"المربّي"، باعتباره حلقة الواسطة بين الروح والمعنى. فالمربي في هذه المدرسة هو أول من يجب أن يخوض جهاد النفس ويُهذّب ذاته، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، كما ورد في وصاياه التربوية: "ما لم تصلحوا نفوسكم ولم تبدؤا من أنفسكم، ولم تهذبوها، فإنكم لا تقدرون على تهذيب الآخرين، فغير السليم لا يمكنه إصلاح الآخرين، " (الخميني، 2015).

 

ففي عرفان الإمام الخميني، يُنظر إلى الطفل لا ككائن سلوكي فقط، بل كروحٍ في طور التشكّل، قابلة للانفتاح على "الحقيقة" أو الانحراف عنها بحسب ما يُغرس فيها. وهذا ما يجعل التربية عنده ليست فقط نقلًا للقيم، بل مسارًا سلوكيًا–معرفيًا يُنظّم العلاقة بين القلب والعقل والجسد في ضوء الولاية الإلهية، ويُمهّد الطريق لبلوغ الحياة الطيبة. فإذا ما أُدمجت هذه الرؤية في منهج تربوي حديث، فإنها تُنتج نمطًا جديدًا من المناهج، يقوم على الخصائص الآتية:

  • تربية المربي قبل المتربي: من خلال مسار متكامل لتهذيب النفس، وإرشاد المربي (الوالدين، أو غيرهما) لتطبيق قواعد السير والسلوك والتهذيب في فضائه النفسي والروحي الخ.
  • الارتكاز على فطرة الطفل واستعداداته الوجودية: بعيدًا عن النماذج النفعية أو الأداتية.
  • محورية الحب والكره:  حيثُ تظهر تطبيقات هذين البعدين العاطفيين، مع الاقرار بالأسس المعرفية الخاصة بهما،  في نوع تلقي الطفل والمتربي للارشادات التربوية والسلوكية وتطبيقها في مساره الخاص نحو الله تعالى، وقد يكون هذا المسلك مسلكا تربويا إسلامياً فريداً، أكدت عليه الكثير من الآيات والروايات الشريفة.
  • القدوة التربوية المتعالية: بحيث يكون الوالدان نموذجيْن في السلوك كما في الرؤية.

 

لقد أصبح من الملحّ اليوم أن تنتقل التربية الإسلامية من دائرة النصّ والموعظة إلى بناء مناهج عملية موجهة للأسرة، تتضمن أدوات وتقنيات قابلة للتطبيق، ولكنها مشروطة بسلوك المربي ووعيه بذاته ومهمته. إن العرفان الإسلامي، بما فيه من توازن بين الداخل والخارج، والمادي والروحي، يُمثّل بنية تأسيسية مثالية لقيام هذه المناهج، ليس بوصفه مجرّد تأمل روحي، بل بوصفه علمًا عمليًا في التهذيب التربوي.

 

من هنا، فإن تطوير مناهج موجهة للأسرة المسلمة، تستلهم من العرفان التربوي، لا يمثل ترفًا فكريًا، بل ضرورة بنيوية لحماية الجيل القادم من الانفصال الوجودي، وتمكينه من أن ينشأ على معرفة النفس، ومعرفة الغاية، وسلوك طريق القرب.

 

 

الخاتمة

ليست التربية الإسلامية في الأسرة مشروعًا تراثيًا تجاوزه الزمن، بل هي نسق حيّ، قابل للتجدد والفعالية، متى ما أُعيد وصلها بمرجعيتها الربانية، واستُثمرت فيها الوسائل المعاصرة ضمن غاية التكامل الإنساني. إن التحدي لا يكمن في الأدوات، بل في المرجعيات والغايات. والأسرة المسلمة اليوم مدعوّة لاسترداد مكانتها كمربٍّ أول، ومجالٍ رمزيٍّ، وجبهة مقاومة تربوية وسط عالمٍ يهدّد المعنى ويُفرغ الطفل من روحه.

 

 


[1]  دكتوراة في المناهج التربوية، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية، أستاذ جامعي، بيروت.

[2] لاتحاد. (2014، يوليو 5). الأسرة .. الكيان المقدس واللبنة الصالحة للمجتمع. صحيفة الاتحاد. https://www.aletihad.ae/article/59223/2014/

[3] مركز الكفيل الأسري. (2019). دور الأم في التربية. https://family-guidance.net/kids/view/details?id=292

مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape