Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

الأسرة الرساليّة في الإرث التربوي للنبي محمد(ص)

الأسرة الرساليّة في الإرث التربوي للنبي محمد(ص)

الأسرة الرساليّة في الإرث التربوي للنبي محمد(ص)

 

تُعَدّ الأسرة الركيزة الأولى في بناء الإنسان والمجتمع، وهي المؤسسة التي يتحدّد من خلالها مصير الأجيال وصورة الحضارة. غير أنّ عالم اليوم يشهد أزمة عميقة في بنية الأسرة ووظيفتها؛ ففي الغرب المعاصر انزلقت الأسرة من كونها عهداً وجودياً يقوم على المودّة والرحمة إلى مجرّد عقدٍ نفعيّ تحكمه البراغماتية المادّية. تفكّكت الروابط التربوية، وتسلّعت العاطفة والجسد، وغابت المرجعية الإلهية التي تمنح الحياة الأسرية معناها العميق والمطلق. والنتيجة: بيوتٌ هشة، وأطفالٌ في قلب حسابات الطلاق والمحاكم، وعزلةٌ تُصنَّف اليوم وباءً اجتماعياً وصحياً. وفي مواجهة هذا الانهيار القيمي، يقدّم الإسلام نموذجاً مغايراً للأسرة، يقوم على السكن والمودّة والرحمة، ويربط الحبّ بالمسؤولية، والعاطفة بالرسالة، والبيت بالهوية الحضارية. ويتجلّى هذا النموذج بأبهى صوره في بيت النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) والسيّدة خديجة (سلام الله عليها)، حيث كان البيت نفسه منطلقاً لحركة تاريخية غيّرت وجه العالم.

 

إنّ دراسة هذا البيت الرسالي ستفتح الباب واسعاً، لاستلهام مفهوم حضاريّ رئيسٍ وفاعلٍ كمفهوم الأسرة. فكما شكّل بيت خديجة عليها السلام، مركز انطلاق للأمة الإسلامية، يمكن أن تشكّل بيوتنا اليوم سدّاً في وجه الموجة المادّية التفكيكية، ومصنعاً لتربية الإنسان الرسالي القادر على التغيير. من هنا تأتي أهمية هذه المقالة: قراءة نقدية للأسرة المعاصرة تحت المجهر، ثم استنطاق النموذج النبوي كأفقٍ تربويٍّ حضاريٍّ يصلح أن يكون مرجعاً لإعادة بناء الأسرة في زمن اللاهويات.

 

 

أولاً: الأسرة المعاصرة  تحت المجهر

حين ننظر إلى الأسرة في العالم الغربي المعاصر، نكتشف أنها انزلقت من كونها عهداً إلهيا بين فردين، يقوم على المودّة والرحمة إلى مجرّد "عقدٍ نفعيّ" تسيّره البراغماتية المادّية. فقد تحوّلت الزوجية إلى "شراكة خدماتية" تتبادل فيها الأطراف المنفعة، أو إلى "تنظيمٍ قانونيٍّ" لتقاسم الأعباء. في هذا السياق تتلاشى القداسة، وتُفكّك الروابط التربوية، وتُسلّع العاطفة والجسد، ويُختزل البيت في كيان إداريٍّ هشّ، سريع التفكك والانهيار.

 

  1.  الأسرة في المنظور الغربي

إذا قسنا تحوُّل الأسرة من ذلك العهد الإلهي إلى عقدٍ نفعيّ بمؤشّرات التشكُّل الأسري، سنجد أن النموذج الغربي يميل تراكميًا إلى فكّ الارتباط بين الإنجاب والزواج، وإلى إضعاف مركزية الزواج ذاته. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة المواليد خارج إطار الزواج في الاتحاد الأوروبي 41.1%  عام 2023، بل صارت تفوق المواليد داخل الزواج في ستّ دول أوروبية (بينها فرنسا والبرتغال والسويد)، وهو انعكاس مباشر لتحوّل أنماط التشكّل الأسري بعيدًا عن الزواج بوصفه "الميثاق" الطبيعي للأبوّة والأمومة. في السياق نفسه، هبط المعدّل الخام للزواج في الاتحاد الأوروبي إلى 4.0  زيجات لكل ألف من السكان عام 2023 بعد أن كان 8.0 عام 1964، بينما يدور المعدّل الأميركي في 2023 حول 6.1  لكل ألف؛ وكلّها إشارات إلى أن الزواج يُعاد تعريفه كترتيب قانوني مرن أكثر من كونه عهداً مُؤسِّسًا للسكن والمودّة[2].

 

هذه التحوّلات البنيوية تجعل الأبناء في قلب "حسابات الطلاق والمحاكم" لا في حضن عهدٍ مستقرّ؛ فمع أن معدّلات الطلاق في أوروبا شهدت تذبذبًا طفيفًا مؤخرًا، إلا أنّ المستوى الهيكلي ظلّ عند 2.0  طلاق لكل ألف في 2023 على مستوى الاتحاد الأوروبي، ما يعمّق صورة الزواج كـ"صفقة قابلة للفسخ" أكثر من كونه عهدًا وجوديًا. [3]

 

إنّ حلول "القانون البارد" محلّ "السكينة" لا يُقرأ فقط كاختلاف ثقافي، بل كتحوّل في المعيار المؤسِّس للأسرة  من ميثاق قيمي مُتعالي إلى عقد قابل لإعادة التفاوض الدائم.

 

 

  1.  البراغماتية المادّية وتفكيك الروابط الأسرية

حين تصبح الذات الفردية وحدة القياس العليا، تُعاد هندسة الروابط الأسرية حول المنفعة القابلة للاستبدال. تظهر آثار ذلك في اتّساع القوالب غير الزواجية وارتفاع قابلية التفكّك عبر جيلين وثلاثة. في الولايات المتحدة — وهي حالة مرجعية في السياسات الليبراليةتكاد نسبة الأطفال الذين يعيشون مع والد منفرد أن تبلغ ربع الأطفال (25%) عام 2023 بعد أن كانت 9% فقط عام 1960؛ وهي أعلى نسبة مُسجّلة دوليًا وفق مقارنات واسعة، وتعكس تراكب انخفاض الزواج وارتفاع الولادات خارج الزواج[4].

 

وفي المملكة المتحدة تُظهر بيانات 2024 من مكتب الإحصاءات الوطني أن الأسر المتعايشة دون زواج صعدت إلى 3.5 مليون أسرة (17.7% من جميع الأسر)، وأن حوالي 29.5% من الأُسر هي لشخص واحد  (8.4 مليون فرد يعيشون وحدهم)، بينما انخفضت حصة “الأسر الزوجية” من 67.1% إلى 65.1%  خلال عقد واحد بسبب انتقال مزيد من الأزواج إلى نمط المعايشة بلا زواج. هذه صورة كمية لفكّ الروابط إلى ترتيباتٍ أكثر هشاشة وأكثر قابلية للانفراط مع أول صدمة. لذلك نجد أن براغماتية "أقصى لذّة بأدنى كلفة" تجعل العلاقة عقد خدمات سريع الاستبدال؛ وكلما ازداد ذلك من أسفل (المعايشة/الأحادية) تقلّص من أعلى (العائلة الممتدّة/العهد).

 

  1.    الاستهلاك العاطفي بدل السكن الروحي

إنّ غياب المرجعية المُتعالية يحوّل الحبّ إلى استهلاك عاطفي قصير النفس. تُظهر قواعد البيانات الدولية أن نسبة المواليد خارج الزواج عبر دول الـOECD تخطّت 40% حول 2020 بعد أن كانت بحدود 7% في 1970 — قفزة تعكس تحوّلًا ثقافيًا يربط الإنجاب بالعلاقة الرومانسية أو المساكنة المؤقتة أكثر من ربطه بالعهد الزوجي. وفي أوروبا، كما أسلفنا، استقرّت نسبة مواليد خارج الزواج عند 41.1% عام 2023. بالتوازي، تأخّر سنّ الإنجاب الأول للنساء في الاتحاد الأوروبي إلى متوسط 29.8 عامًا في 2023 مع هبوط الخصوبة الكلّية إلى 1.38؛ وهي إشارات إلى تأجيل التزامات الأسرة وتغلُّب منطق "التجربة والاستهلاك" على منطق "السكن والميثاق الزوجي" .[5] وأما في الولايات المتحدة، فيبلغ المعدّل الخام للزواج في 2023 (6.1/ألف) ظلّ أدنى من مستويات العقدين السابقين، ما يتناغم مع ازدياد المعايشة والعلاقات غير الرسمية بوصفها بدائل استهلاكية للميثاق الزوجي. والنتيجة العملية لهذه الترتيبات هي تغذية دورة هشة من نقاط الضعف: التزامات أقلّ - استثمار عاطفي أقلّ - قابلية أعلى للانفراط[6].

 

ولذك فإنّ اختزال الزواج في "الإشباع المؤقّت" للاحتياجات الآنية، يحول الأسرة إلى مُنتجٍ ثقافيٍّ قصير الأجل؛ بينما "السكن" في الرؤية التأسيسية هو عبارة عن قيمةٌ دينيةٌ لها مفاعيل تربوية طويلة الأمد.

 

  1. غياب المرجعية الأخروية وضياع القيم

من المهم أن لا نقع في مطب التعميم، غير أن تراجع تأثير المرجعية المتعالية (أي البعد الإلهي في الزواج) يقترن عادةً بمؤشرات موضوعية على تفكّك الروابط وازدياد العُزلة. تقرير الجراح العام الأميركي (2023) صنّف الوحدة والعُزلة "وباءً للصحة العامة"، مع آثارٍ تُشبه — في خطورتها التراكمية — تدخين 15 سيجارة يوميًا من حيث المخاطر القلبية والذهنية، ودعا إلى إعادة بناء البُنى الاجتماعية المُولِّدة للارتباط والمعنى. هذه القراءة الصحية تُسنِد نقدَنا: تفكك العائلة ليس "مسألة قيمية" فحسب، بل مشكلة صحة ورفاه اجتماعي أيضًا. [7]

 

كما تُظهر أحدث بيانات ONS في بريطانيا أن ثلث الرجال (33.7%) بين 20–34 عامًا يعيشون مع أحد الوالدين في 2024، و28.0%  من الشبان والشابات عمومًا يعيشون مع الأهل — وكلّها علامات ضغط اقتصادي/سكني وثقافي يُبقي "الانفصال المؤسسي" (تأجيل تكوين الأسرة المستقلة) عاليًا[8].  فالضَّياع القِيَمي يتجاوز إلى أثمان اجتماعية وصحيّة كتآكل شبكات الرعاية، وانزياح التربية من "الأسرة" إلى خدمات سوقية مجزّأة.[9]

 

 

ثانياً: الإطار القرآنيّ للأسرة الرساليّة

تقوم الأسس القرآنية لبناء الأسرة على جملة من المرتكزات:

  1. السكن والمودّة والرحمة: في قوله تعالى "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" (الروم: 21)، فلا يبقى البيت كمأوى مادي، بل فضاء رحمانيّ تتجسّد فيه السكينة.
  2. اللباس المتبادل: "هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ" (البقرة: 187). واللباس هو الستر والحماية والزينة، كما أنَّه وهو صورة عن التكامل الوجودي بين الزوجين.
  3. المسؤولية التربوية: وهي ما نجده في قوله تعالى: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا" (طه: 132)، و*«قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»* (التحريم: 6)، والتي تظهر الأسرة كساحة تكليف وتربية قبل أن تكون ساحة استهلاك ورفاه فرداني.
  4. الرسالية تبدأ من البيت: كما في قوله تعالى "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" (الشعراء: 214)، فالرسالة تنطلق من العائلة ثم تتسع إلى الأمّة.
  5. الوظيفة الحضارية: يقول تعالى "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 110)، فالأسرة ليست وحدة مغلقة كمنشأة لتحقيق الرغبات الفردية، بل قاعدة انطلاق لبناء الأمّة وصناعة الحضارة.

بهذه الأسس يصبح البيت الرساليّ خلية حيّة تحفظ التماسك، تربي الأجيال، وتبني الإنسان الرساليّ الذي يقود حركة التغيير.

 

 

ثالثاً: البيت النبويّ الرسالي  

لقد تجلّى النموذج الرسالي في أبهى صوره في بيت النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) والسيّدة خديجة الكبرى (سلام الله عليها). لم يكن بيتًا عادياً، بل كان بيت التأسيس للرسالة، ومختبرًا حضاريًا خرجت منه ملامح الأمة الإسلامية الأولى.

  1.  النبيّ محمد (ص): حامل الأمانة السماوية

وهو الموحى إليه الذي تحمّل أمانة السماء، "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" (المزمل: 5). حيث حمل هذا القول الثقيل في قلب بيتٍ يجد فيه السكينة والدعم، ولم تكن النبوّة في بداياتها سهلة، بل كان الاضطراب والخوف الطبيعيان يحيطان بلحظة الوحي الأولى، حتى عاد إلى خديجة (ع) وهو يقول: "زملوني، زملوني". فجاء سندها العاطفي والمعنوي ليشكّل أول جدار يحمي الرسالة في لحظاتها التأسيسية.

  1.  السيّدة خديجة (ع): الطاهرة العاقلة الغنيّة

وقد وصفها النبي (ص) بأنها خير نساء الأمة إلى جانب مريم بنت عمران (ع).  وقد ذكر العلامة المجلسي في رواية عن الإمام الصادق (ع): "فضل خديجة على نساء النبي كفضل الشمس على الكواكب"[10].

وعن الإمام الصادق (ع): "لما توفيت خديجة جعل رسول الله (ص) يكفكف دموعه، وقال: والله ما قام الإسلام إلا بسيف علي ومال خديجة"[11]. وهذه شهادةٌ رسالية عظمى من النبي الأعظم (ص)، في أنّ مالها كان في خدمة النبوّة، لا في خدمة ذاتها، فجعلت ثروتها جسرًا لرسالة السماء.

  1.  الزَّواج كنقطة تحوّل تاريخية

لم يكن زواج محمد (ص) بخديجة (ع) تقليدياً، بل كان تحوّلًا مفصليًا جمع البُعد الروحيّ الرساليّ مع البُعد الاجتماعيّ والاقتصاديّ.  

فمن الناحية الروحية، هي أول من آمنت، كما يقول أمير المؤمنين علي (ع): "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"[12].  ومن الناحية الاجتماعية، كان بيت خديجة مأوى للمستضعفين وأرضًا خصبةً لإطلاق الدعوة. ومن الناحية الاقتصادية، أنفقت مالها كلّه على الرسالة، حتى جاء في الأخبار أن جبريل نزل على النبي(ص) يبشّره ببيتٍ لها في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب[13].

  1.  من البيت المبارك: صلة الوصل بين النبوة والإمامة

لقد كان ذلك البيت إضافة لكون فضاء عاطفيا أو اقتصاديا، كان مولّداً للصيغة الولائية الأولى، حيثُ حضن ولادة وتربية سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع)، والتي كانت صلة الوصل بين النبوة والإمامة. وبها امتدّ الخط الرسالي عبر الأئمة (عليهم السلام). فإذا جمعنا هذه الدلالات ندرك أن البيت النبويّ الرسالي لم يكن بيتًا شخصيًا، بل كان بيتَ التاريخ والقدر، بيتًا تأسّس على العهد الإلهيّ لا على العقد النفعيّ، وعلى المودّة والرحمة لا على المصلحة العابرة.

 

 

ثالثاً: محاور دور السيدة خديجة الكبرى

  1.  الدور العاطفي/التربوي

فقد روي عن الإمام علي (ع): "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما"[14]، كما ورد عن الإمام الصادق(ع): "ما قامت دعائم الإسلام إلا بسيف علي ومال خديجة"[15].  

وهذا يعني أن الدعم العاطفي والمعنوي لخديجة (ع) كان جزءاً تأسيسياً من تثبيت الرسالة، وامتد أثره إلى ابنتها فاطمة الزهراء (ع)، التي صارت مركز إشعاع تربوي للأمة.

 

  1.  الدور المالي/الاجتماعي

كانت خديجة من أغنى نساء قريش، لكنها جعلت ثروتها في خدمة الرسالة. حرّرت العبيد، جهّزت الدعوة الناشئة، وسهّلت انطلاقها من القيود الاقتصادية. وقد ورد عن النبي (ص) قوله: "ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة" (بحار الأنوار، ج16، ص12)

وفي رواية أخرى: "إن الله عز وجل اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة"[16] فثروة خديجة لم تكن ملكاً شخصياً، بل صارت أداة رسالية، ففكّت بها أسر المستضعفين، ومهّدت الطريق لنشر الدعوة.

 

  1. الدور الجهاديّ

حين حاصر المشركون بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً، انتقلت خديجة مع النبيّ إلى الشعب، تحمّلت الجوع والعطش والحرمان، وصرفت مالها في سدّ حاجات المسلمين.  

 

ونجد كذلك تحمّلها الكبير لكل الضغوط التي مورست عليها من قبل البيئة الاجتماعية المجيطة بها، رفضا منهم للنبي الأكرم(ص). ومن ذلك ما ذكره الطبري في دلائل الإمامة  عن الصادق عليه السلام قال: "إنَّ خديجة (رضوان الله عليها) لما تزوج بها رسول الله (ص)  هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها، ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة من ذلك. فلما حملت بفاطمة (ع)، وكانت خديجة تغتم وتحزن إذا خرج رسول الله (ص)، فكانت فاطمة تحدثها من بطنها، وتصبرها، وكان حزن خديجة وحذرها على رسول الله. وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول الله (ص)، فدخل يوما، فسمع خديجة تحدث فاطمة، فقال لها: يا خديجة، من يحدثك؟! قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. فقال لها: يا خديجة، هذا جبرئيل يبشرني بأنها أنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأن الله (تعالى) سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه. فلم تزل خديجة عل ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم ليلين منها ما تلي النساء من النساء. فأرسلن إليها بأنك عصيتنا، ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدا، يتيم أبي طالب، فقيرا لا مال له، فلسنا نجيئك، ولا نلي من أمرك شيئا، فاغتمت خديجة لذلك".

 

وروي عن  ابن عباس في تفسير هذه الآية (فوجدك عائلا فأغنى) "يعني وجدك فقيرا فأغناك بمال خديجة. كان لخديجة مال كثير وحسن وجمال، ومن جملة مالها من أواني الذهب مئة طشت، ومن الفضة مثلها ومئة إبريق من ذهب، ومن العبيد والجواري مئة وستون، ومن البقر والغنم والإبل والحلي والحلل وغيرها ما شاء الله قيل: كان لها ثمانون الف من الإبل بل كانت تؤجر وتكري من بلد إلى بلد فبذلت تلك الأموال والجواري والعبيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بقيت تنام هي ورسول الله (ص) في كساء واحد لم يكن لها غيرها"[17].

  1.  الدور الولائيّ (التأسيس لخطّ الأئمة)

ومن رحم خديجة خرجت فاطمة الزهراء (ع)، التي أصبحت أمّ الأئمة. وهكذا تحوّلت خديجة إلى جذرٍ ولائيّ، أسّس لامتداد خطّ النبوة في الإمامة. قال الإمام الصادق (ع): "خديجة خير نساء النبي، وفاطمة خير نساء العالمين"[18] ، وجاء في دلائل الإمامة أنه لولا خديجة ما قامت دعامة الإسلام، ولولا فاطمة ما استقام بنيانه[19]، وهذا الامتداد الولائيّ هو الذي جعل بيت خديجة مركزاً تأسيسياً لخط الإمامة، ليكون بيتها جذرًا للتاريخ الإسلامي كلّه.

كيف نقرأ هذه التجربة اليوم في ظلّ عالم ماديّ يفتّت الأسرة؟

 

  1.  إدارة العاطفة الزوجية

الحبّ في البيت الرسالي ليس نزوةً ولا رغبة عابرة، بل سكنٌ نفسيّ وروحيّ. قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" (الروم: 21)،
هذا النص القرآني يرسّخ أن جوهر العلاقة الزوجية هو السكينة لا الاستهلاك. في التراث التاريخي نجد كيف كان النبي(ص) يخصّ خديجة (ع) بالحب والوفاء، حتى بعد وفاتها، وكان يكرم صديقاتها ويذكرها بالخير[20]. هذا الوفاء ليس عاطفة شخصية بل تربية للأمة على أن الحب عهد وذاكرة ومسؤولية.

 

  1. مركزية العبادة المنزلية

لقد كان البيت النبويّ بيت صلاة وذكر، فقد ورد عن الإمام علي (ع) أنه كان يصلّي مع النبي وخديجة منذ الأيام الأولى: "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"[21]. هذا النص يرسم صورة لبيتٍ تحوّل إلى محراب جماعي. وهكذا كانت عبادتهم في الحرم المكي، وحضور السيدة خديجة الكبرى بنفسها أمام الكعبة، تأكيداً على كونها قبلة للمسلمين، وإظهاراً للعبودية لله بمظهر الصلاة المحمدية بركوعها وسجودها ودعائها، فيما قريش غارقة بالتكذيب والاهانة والحملة الدعائية المضللة تجاه النبي والدعوة الإسلامية! وهذا الموقف من السيدة خديجة في تأكيد إسلامها أمام قريش، بإقامة الصلاة، هو موقف شجاعٌ ونادرٌ من امراةٍ مثلها، في زمنِ سطوة أبي سفيان وابي جهل وأبي لهب وعتاة قريش.

 

وفي المقابل، نجد بيوت الحداثة المادية صارت تُدار بالشاشات والرفاهية الاستهلاكية. فيما نحن بحاجة إلى بيوتٍ تجعل الصلاة جماعةً عادة يومية، وتحوّل ذكر الله والعلم إلى جزء من بنية الحياة اليومية للأسرة.

 

  1.  خدمة المجتمع من داخل البيت

لم يكن بيت خديجة (ع) بيتاً منغلقاً، بل كان مأوى للمستضعفين وبيت إنفاق، وهذا ما نفهمه من حركة الرسول الأكرم (ص) الكثيفة مع الفقراء والمستضعفين، الذين تمت محاربتهم ومحاصرتهم ماليا واقتصاديا وتجويعهم إلى أكثر حد مؤذٍ.. فيما كانت خيدجة تنفق من مالها على هذه الدعوة الناشئة. فقد روي عن الإمام الصادق(ع): "ما قامَ الإسلام إلا بسيف علي ومال خديجة" ، وهنا نجد مال خديجة وبيتها قد تحوّلا إلى أدوات تحريرية وجهادية.

بينما اليوم، نجد بيوت الغرب المادي تنغلق على ذاتها، وتُحوّل الحياة الأسرية إلى دوائر خاصة معزولة. لذلك  فإن الرسالة العملية من بيت خديجة فهي:أن نجعل بيوتنا منصّات عطاء؛ بأن يكون المطبخ مطبخاً للفقراء، والغرفة ملاذاً ليتيم، والإنفاق باباً لدعم قضية.

 

  1. بناء الهوية الرسالية للأطفال

لقد ركزت التربية النبوية على نقل الرسالة عبر الأجيال. فالزهراء (ع) كانت ثمرة هذا البيت الرسالي، وأصبحت بدورها أُمّ الأئمة، لتجعل الهوية الرسالية ممتدّة عبر التاريخ. جاء في الحديث: «إنما مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"، وقد ساهمت السيدة خديجة عليها السلام، ببناء أسس هذه السفينة الواسعة عبر تربية فاطمة عليها السلام وحمايتها من أذى قريش، بحيث قوي عودها على الإسلام وكانت خير سند للدعوة النبوية والرسالة المحمدية في عزّ طغيات قريش وتكبرها وتجبرها، وهنا نجد الأدلة وافرة على كون التربية في بيت خديجة هنا ليست مجرد عاطفة فردية وإنما هي بناء لهوية أُمّة.

 

ومن هنا نكتشف أن البيت الرسالي في الإسلام هو أرقى نماذج الحضارة الإنسانية في حين جعلت الأنظمة المادية الأسرة وحدة استهلاك هشّة، حوّلها الإسلام إلى مؤسسة جهادية تربوية، كما أنه في حين حافظت الحضارات الأخرى (مثل الصين) على بعض القيم الأسرية التقليدية، فإنها بقيت محصورة في النطاق الاجتماعي الضيق؛ بينما الإسلام نقل الأسرة إلى ساحة التاريخ الكوني، لتكون بيت النبوّة خديجة(ع) هو نقطة انطلاق الأمة.

 

 

خاتمة

إذن، لم يكن هذا الزواج المبارك والبيت المبارك، مجرّد بيت؛ بل كان مختبراً حضارياً ومدرسة تربوية.  وفي زمنٍ تتهاوى فيه الأسر الغربية تحت وطأة المادية والتفكك، نحن مدعوون إلى استلهام هذا النموذج. لذلك، فإن الأسرة الرسالية هي السدّ الأخير أمام طوفان العدمية. وإذا أردنا أن نبني حضارة إسلامية جديدة، فلا بدّ أن نعيد إحياء هذا النموذج: بيتٌ يقوم على العهد  الإلهي لا العقد النفعي البرغماتي، وعلى المودّة لا المنفعة، على السكينة والرسالية لا التفاهة والقلق.

 

 

 

 


[1]  أستاذ جامعي، متخصص في المناهج التربوية، باحث في مركز الدراسات والأبحاث التربوية، بيروت.

[2] https://ec.europa.eu/eurostat/statistics-explained/index.php?title=Marriage_and_divorce_statistics

[3] المصدر نفسه.

[4] https://www.pewresearch.org/short-reads/2019/12/12/u-s-children-more-likely-than-children-in-other-countries-to-live-with-just-one-parent.

[5] https://ec.europa.eu/eurostat/statistics-explained/index.php?title=Marriage_and_divorce_statistics.

[7] https://www.hhs.gov/sites/default/files/surgeon-general-social-connection-advisory.pdf

[8]https://www.ons.gov.uk/peoplepopulationandcommunity/birthsdeathsandmarriages/families/bulletins/familiesandhouseholds/2024

[9] التباين القطري مهمّ: بعض الدول الأوروبية (كاليونان) ما تزال نسبة الولادات داخل الزواج فيها مرتفعة، لكن الاتجاه العام في أوروبا الغربية والشمالية هو صعود نسبة الولادات خارج الزواج وتوسّع المعايشة.

[10]  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج16، ص12.

[11]  الكليني، الكافي، ج1، ص448.

[12]  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص221.

[13]  الكليني، الكافي، ج1، ص450.

[14]  المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص221.

[15]  الكليني، الكافي، ج1، ص448.

[16]  المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص26.

[17] محمد مهدي الحائري، شجرة طوبى، ج2، ص٢٣٤.

[18]  المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص19.

[19]  الطبري، دلائل الإمامة، ص45.

[20]  المجلسي، بحار الأنوار، ج16، ص23.

[21] م.ن.

مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape