Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

دور المناهج التربوية في صناعة الوعي

دور المناهج التربوية في صناعة الوعي

دور المناهج التربوية في صناعة الوعي

 

  تُعدّ المناهج التربوية السبيل الحيوي والهام في تشكيل معارف الفرد ومواقفه وسلوكاته، فهي ليست مجرّد محتوى يكتسبه المتربون أو المتعلّمون، بل منظومة أو شبكة متداخلة من المعارف والمواقف والاتجاهات والقيم والسلوك والأهداف والطرائق والأساليب؛ التي تُعيد إنتاج أو صناعة الوعي المجتمعي، وفي هذا السياق يتناول هذا المقال موضوع «صناعة الوعي» بوصفه هدفًا محوريًا للمناهج، ويبحث في دور المناهج التربوية في التغيير الثقافي والمعرفي للمجتمع، وعرض نماذج تاريخية لذلك، مع بيان المحاذير التي يجب الانتباه إليها في هذا المجال، وكيفية المعالجة.

 

أهمية المناهج التربوية في عملية التغيير المجتمعي

    تلعب المناهج التربوية دورًا تأسيسيًا في تعديل المكوّنات الثقافية في أي مجتمع من المجتمعات، من خلال القيم والتصورات إلى السلوكات المنظمة والمقدمة في المحتوى. فعندما تُصاغ المناهج بصورة واعية، فإنّها تعمل على ثلاث حالات مترابطة:

  •   ترسيخ المعرفة  (Consolidating knowledge).
  •   تشكيل الاتجاهات والقيم    Forming attitudes and values.
  • تطوير المهارات والفعل العملي Skill development .

    ولذلك تصبح المؤسسة التربوية أو التعليمية (المدرسة مثلاً) ومن خلال المنهاج التربوي، ميدانًا لإعادة إنتاج الهوية[1]، أو لإحداث تغيير مجتمعي شامل[2]، وهذا الفهم يتقاطع مع نتائج البحوث المعاصرة في الميدان التربوي، التي تربط بين جودة تصميم المنهاج، ونجاح الإصلاحات التعليمية والتغيرات المجتمعية المستدامة.

 


ماذا نقصد بإعادة صناعة الوعي؟

   إعادة صناعة الوعي: هي عملية مقصودة ومنهَجية، تهدف إلى إعادة تشكيل تصورات الأفراد وأفكارهم ومفاهيمهم، حول مجموعة من القضايا الاعتقادية، والمسائل المستحدثة، والعلوم والقضايا المطروحة في ميادين الحياة المتعددة، أو قضايا تطال الاعتقاد بالله تعالى، والوعي بالذات، وفهم العلاقة مع الآخر وكيفية التعامل معه، وتحديد الموقف المعرفي والعملي من العلاقة بالخلق والكون والموجودات، وبحيث يتم نقل مجموعة معيّنة من التصورات التي تم صياغتها على شكل أهداف وغايات، من خلال مصممي أو معدي المنهاج.

 

 هذه العملية لا تقتصر على نقل معلومات جديدة، بل تشمل إعادة تشكيل الإطار المفاهيمي Conceptual Framework [3] الذي يُفسَّر من خلاله المعارف والخبرات.  

 

 

دور المناهج في صناعة الوعي

   يمكن تحديد دور المناهج في صناعة الوعي في محاور رئيسة، هي:

صياغة محتوى المعارف والقيم والاتجاهات[4]: من خلال اختيار الموضوعات والأمثلة والقصص والنصوص التي تروّج لأبعاد وميادين اعتقادية وحياتية معينة، وعلى عدة مستويات (دينية إيمانية، وأخلاقية، واجتماعية، ووطنية، واقتصادية، وبيئية، وجسمية،...إلخ).


تصميم تجارب تعلُّمية نقدية: فالمناهج التي تعتمد على الحوار والمشاريع والمشكلات الواقعية تنتج وعيًا ناقدًا بدلاً من وعي تقليدي .


الطرائق والأساليب التربوية: كالتعلم التعاوني، والتعلم القائم على المشروع، عمل المجموعات،..، تشجّع التعلّم الذاتي والمسؤولية، وهي عناصر مهمّة في تكوين وعي مواطن فاعل.


بناء بيئة تعليمية مُجسّدة للرسالة  أو الرؤية:  وذلك من خلال ما يُعلّم في المنهاج ينبغي أن ينبع من واقع المؤسسة التربوية أو التعليمية وما تحتوي (أي كلٍ من: المتربي، المربي، محتوى المناهج، النظام التربوي،...)، ومن خلال التوافق بين ما يقدم كمعارف، وبين ما يُمارَس ويطبّق على المستوى السلوكي، بحيث لا يؤدي إلى تناقضات تفقد المنهاج فعاليته ومصداقيته.

 


النماذج التاريخية في إعادة صناعة الوعي من خلال المناهج

 

   هناك أمثلة تاريخية عديدة تُظهر دور المناهج وفاعليتها في إعادة تشكيل الوعي، منها:

نموذج الإصلاح التربوي في أوروبا: ففي أوروبا الغربية (في القرن 16) كانت المناهج والمحتوى التعليمي مدخل لإعادة العلاقة بين الإنسان والآلة والطبيعة من جهة، وبين إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان وعالم الغيب من جهة ثانية، وأما في أوروبا الشرقية (في القرن الـ19 والـ20) كانت المناهج الوطنية أداة لتشكيل المواطن القومي.


 نموذج بيداغوجيا تحرُّرية في أميركا اللاتينية: حيث استخدمت برامج التعليم للكبار لتحرير الوعي الطبقي، وتمكين المجتمعات المُهمَّشة من وعي ذاتي ومطالبة بحقوقها. هذا النموذج يوضِّح أن المنهاج يمكن أن يكون وسيلة لتحرير الوعي أو لبنائه، بحسب اجتهاد المصمّمين والفاعلين التربويين.


في الولايات المتحدة الأمريكية: ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن سبق الاتحاد السوفياتي (آنذاك) العالم في غزو الفضاء، بما فيه أمريكا، وبناء على نتائج تقرير اللجان الرئاسية في التعليم لترومان في عام 1947م، إلى تقرير أمة في خطر بداية ثمانيات القرن الماضي، والذي أرجع الأمور إلى التربية، وحمَّل المسؤولية للقيمين عليها، واعتبر بأنه لو كانت هناك دولة أعدت المناهج التربوية أو النظام التعلمي لديها لكان لزامًا عليها(كأمريكا) أن تعلن الحرب عليها.


إصلاح التعليم الحديث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية: حيث أعدت الدولة من خلال نخبة علمية واسعة، وثيقة تربوية شاملة ومتعددة الجوانب، فعملت من خلالها على إحداث تحول بنيوي في الثقافة التي كانت قائمة، أو التي كانت معتمدة في عملية التعليم الرسمي في النظام ما قبل الثورة، وقد تضمنت هذه الوثيقة أهدافًا واستراتيجيات تحولية ضخمة على مستوى النظام والإدارة والمناهج التربوية، والمقررات التعلمية في البلاد، وقد سعوا من خلال ذلك إلى أحداث التغيير المنهجي المتكامل (محتوى، تدريب المعلمين، الإدارة والقيادة المدرسية، ...) وبما يمكن أن يُحدث أثرًا مجتمعيًا أوسع، أي لكي يكون هناك تحولاً مجتمعيًا شاملاً.

 

 


المحاذير التي يمكن أن تطال هذه العملية، وكيف يمكن المعالجة

 

عملية صناعة الوعي عبر المناهج تنطوي على مخاطر ومُحاذير معرفية ومنهجية:

الفجوة بين القول والفعل(Hypocrisy): مناهج تُعلّم قيمًا راقية، لكن المدرسة والبيئة قد تؤدي دورًا معاكسًا، مما يستدعي معالجة خاصة، وهي العمل على مواءمة السياسات المدرسية بالممارسات الإدارية والإشرافية، وإعداد المربين وتدريب المعلمين، وتقويم الممارسات على ضوء القيم المعلنة.


التقويم الثقافي الخاطئ: قياس نجاح المنهاج بمؤشرات ضيقة (مثل نتائج اختبار موحّد فقط) يغَيِّب أبعاد الوعي والسلوك، أما معالجة هذا الأمر فيتم باستخدام تقويمات شاملة (كيفيّة ونوعيّة) تقيس التفكير النقدي والقيمة والسلوك الاجتماعي، والمواقف المتعددة للمتربي المتعلم.


 الاستئثار الأيديولوجي والتحيّز: قد يتحوّل المنهاج إلى أداة إكراه معرفية، يستبعد آراء ومرجعيات أخرى، من دون وجه حق، فلا يلحظ المكونات المتعددة في الوطن الواحد، ولا يراعي حقوقهم، ويستبعد الاتجاهات الفكرية والثقافية المتنوعة، أما المعالجة، فينبغي أن تتم من خلال: اعتماد مبدأ الشفافية في مجال تناول المعرفة، وفتح فضاءات متعددة للنقاش والمناظرة في مرحلة إعداد الوثائق المعرفية والنظرية، أي الفلسفة التربوية، أو حين تطبيق  المنهاج.
 الاستلاب الثقافي: والذي يتم من خلاله إدخال مناهج غريبة، من دون أن يتم توطينها وتكييفها بالبيئة المحلية، بحيث يؤدي ذلك إلى رفضها أو سوء استيعاب لها، أو إيجاد فجوة معرفية وثقافية عامة بين التربية والتعليم من جهة، وبين الواقع المعاش والحياة اليومية من جهة ثانية، كما هو في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية، أما معالجة ذلك فتتم من خلال تبنّي مقاربة تركيبية
 (cultural synthesis)تُراعي السياق المحلي وتستفيد من المنهاج العالمي.

 

  ختامًا، المناهج التربوية هي ساحة مركزيّة لصناعة الوعي، إمّا لتثبيت سياقات قائمة، أو لتهيئة ثقافة جديدة، أو خلق منحى تفكير توليدي إبداعي جديد. بحيث أنّ تصميم المناهج المعاصرة يقتضي موازنة معرفية وقيمية بين الأبعاد العلمية والحياتية والإنسانية المتعددة، مع مراعاة سياق المجتمع المحلي، ووضع آليات دقيقة لموازنة المعرفة الأكاديمية، والتنوع الثقافي والشفافية في الأهداف. حيث ينبغي أن تكون المناهج أدوات تمكين لا أدوات تسطيح أو إلغاء للهوية الثقافية، ومع هذا فثمة إمكانات حقيقية للمناهج أن تكون محرِّكة للتغيير المجتمعي البنّاء؛ إذا ما صُمِّمت ونفّذت وقُيِّمت وفق معايير ومحكات[7] علمية وأخلاقية واضحة.

 

  وفضلاً عن ذلك، فإنّنا مع ملاحظة التغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر، وفي ظل كثرة المتغيرات العلمية والسياسية والاجتماعية، والتطورات التقنية الحاصلة والمؤثّرة على أكثر من صعيد، والمنعكسة على مجمل الحياة البشرية، يبدو للمتتبع أن المجال التربوي أكثر تأثيرًا، إذ أن التربية تنطلق من مجموعة التصورات والمنطلقات الفكرية والبنائية التي تصوغ رؤيتها للمستقبل على ضوء الإجابة على السؤال التالي: "أي إنسانٍ نريد؟"، حيث تأتي المناهج التربوية والتعليمية لتدخل في صميم الإطار الذي تتجلى فيها تلك المفردات، التي يحاول المجيب استخدامها والاستعانة بها لحل هذه الإشكالية البنائية[8]، وهو ما يدفعنا لجعل المناهج التربوية والتعليمية مواكبة التحديات المستجدة، بشكلٍ مستمر، سواء كان ذلك على مستوى التحولات التقنية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي، أو التحديات التي تطال الجوانب الفكرية والمجتمعية والثقافية والنفسية التي تواكب الحياة البشرية.

 

 

الكلمات المفتاحية:

 المناهج التربوية، الوعي / صناعة الوعي / إعادة صناعة الوعي، المعرفة / المعارف  القيم،   الاتجاهات، السلوكات/السلوكيات، التربية، المجتمع / التغيير المجتمعي، الهوية، الثقافة / الثقافي، الفكر/ التصورات، التعلّم/ التعلم الذاتي/ التعلم التعاوني، البيئة التعليمية، الإصلاح التربوي، النقد / التفكير النقدي،  الأيديولوجيا / التحيّز، الاستلاب الثقافي، الذكاء الاصطناعي، إعادة تشكيل التصورات والأفكار، صياغة محتوى المعارف والقيم والاتجاهات، تصميم تجارب تعليمية نقدية، بيداغوجيا تحرّرية ، إصلاح التعليم، الفجوة بين القول والفعل، التقويم الثقافي الخاطئ،   الاستئثار الأيديولوجي والتحيّز ، أي إنسان نريد؟

 



[1] -راجع: المناهج التربوية، من التأسيس إلى عالمٍ متغيّر، كنعان، عباس(الكاتب)، دار الولاء للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ط1، 2025م، ص139.

[2]  - راجع: دور التربية في صناعة وحفظ الهوية، كنعان، عباس (الكاتب)، مقال نشر على موقع مركز الأبحاث والدراسات التربوية، 19/07/2022، www.esrc.org.lb .
[3] -يقوم مجموعة من العلماء أو الفلاسفة -داخل بلد ما- بجهد يسبق عمل مصممي المناهج، لإعداد إطار أو مقاربة أو وثيقة تحتوي على كليات ومبادئ أو مباني وأصول معرفية مستقاة من عدة مصادر، حيث تكون هذه الجهود غالبًا جهودًا نظرية يُعبر عنها بالفلسفة التربوية للمنهاج.

[4] - راجع: التربية الأخلاقية وبناء المنهج التعليمي، مع نموذج تحليلي للمنهج التعليمي في لبنان، كنعان، عباس(الكاتب)، إصدار مركز الأبحاث والدراسات التربوية، دار الأبحاث والدراسات التربوية، ط2، 2025م، ص124.

[5] -راجع: الزند، وليد خضر، وعبيدات، هاني حتمل، المناهج التعليمية (تصميمها، تنفيذها، تقويمها، تطويرها)، الأردن، عالم الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، ط1، 2010م، ص48.

[6] -المباني النظرية للتحول البنيوي في نظام التربية والتعليم الرسمي العام في جمهورية إيران الإسلامية، ترجمة وإصدار المؤسسة الاسلامية للتربية والتعليم-مدارس المهدي(عج)، لبنان، 2015-2016م.

[7] - المنهج التربوي الهندسة والبناء، وفق منطلقات إسلامية تأصيلية، كنعان، عباس(الكاتب)، دار الولاء، لبنان، ط1، 2025، ص267.

[8] - المناهج التربوية، من التأسيس إلى عالمٍ متغيّر، كنعان، عباس(الكاتب)، م.س، ص107.

مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape