Cancel Preloader
ندوات المركز

التقرير العلمي للملتقى التربوي [دور القائد القدوة في التربية على المقاومة ]

التقرير العلمي للملتقى التربوي  [دور القائد القدوة في التربية على المقاومة ]

التقرير العلمي للملتقى التربوي رقم 6 للعام 2025

[دور القائد القدوة في التربية على المقاومة - الشهيد السيد حسن نصر الله نموذجا]

 

 

نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 6 للعام 2025 وذلك عصر نهار الخميس بتاريخ 2-20-2025 م، تحت عنوان [دور القائد القدوة في التربية على المقاومة - الشهيد السيد حسن نصر الله نموذجا] (قدمه د. علي كريم).

  • المداخلة رقم 1: فلسفة الإنسان القدوة ومؤثريته التربوية في نموذج السيد نصر الله (الشيخ د. علي جابر / لبنان)
  • المداخلة رقم 2: التربية على المقاومة في خطابات ومواقف السيد نصر الله (د. عبد الله قصير / لبنان)

 

تقديم الملتقى من قبل د. كريم قال فيه:

يقول الله تعالى في محكم كتابه في سورة الأنعام المباركة: بسم الله الرحمن الرحيم "ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوايَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)".

لا شك بأن مسارات الحياة الإنسانية وعلى امتداد التاريخ، قدمت العديد من النماذج التي تصلح لأن تكون مدرسة تربوية في المعرفة والسلوك وفي مقدمة تلك التجارب الأديان السماوية، إذ أعطت أهمية بالغة ومتقدمة للقدوة الحسنة لما يمكن أن تمثله هذه القدوة على مستوى تقريب ما لدى المربي إلى ما يجب أن يتحقق في المتربي وبتعبير آخر، السير بالمتربي نحو الغايات أو الأهداف التي يمكن أن تسهم في بلورة الحركة الاجتماعية والتربوية، سعياً بالوصول بالمجتمعات الإنسانية نحو تكاملها وسموها بأعلى المستويات.

وبالنظر إلى نموذج القائد القدوة، والذي لا تنفك لديه الأفكار عن الممارسات، إذ تتجلى قناعاته في سلوكياته ليكون نبراساً متألقاً يغني بالمفاهيم والطروحات والمبادئ النظرية والمعرفية كما يغني بالحضور والعلاقات والموقف الحياتية واليومية.

ولعل المقارنة بين ما قبل وما بعد لخير دليل على ملاحظة التمايز في التجارب الإنسانية، فأين كانت المجتمعات وأين أصبحت؟.. ومن قادها ؟.. ومن قاد التحول فيها ؟.. وكيف أثمرت هذه القيادة؟...

 

العلامة الفارقة فيما نقدمه اليوم هو الحديث عن شخصية فريدة، هي شخصية سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله (رض): هذه الشخصية التي عاشت كل عمرها الله، ومع الله، وإلى الله، فكان حقاً مصداقاً للآية الكريمة: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ...".

فالتربية على المقاومة في تجربة سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله (رض)، لم تنطلق من قيادة تحاكي المعركة العسكرية فحسب، بل كل المسار البنائي للمجتمع المجاهد في سبيل الله، فالارتباط بالله ابتداء، والأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، وتكريس الأهداف الغائية من فريضة الجهاد في إعلاء كلمة الله تعالى وإحياء الحق وإماتة الباطل، والدفاع عن المظلومين وصولاً إلى تحقيق مراتب الحياة الطيبة، مع الإيمان بالمدد الغيبي، والاقتداء بالنماذج القدوة والاعتبار من تجربة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام). مع تحقيق المشروعية في الجهاد تحت راية الولي الفقيه، لامتلاك البصيرة كإحدى أهم مقتضيات العمل الجهادي في قبالة تحصين الساحة الإيمانية من شوائب الفتن والأكاذيب والأضاليل. كل هذا يفرض دراسة هذه الشخصية بكل أبعادها، النظرية والعملية.

وما يمكن قراءته في مجتمعنا اليوم لخير دليل على اقتران النتيجة في غرس المقاومة بالعقل والوجدان، فما هو إلا نتاج هذه التجربة من القيادة. التي آمنت برسالتها، ومارستها بصدق وأبدعت في تربية المجتمع على كل ما حملته من ثقافة وفكر وحياة وقيم وثوابت واتجاهات وسلوكيات، بل وحتى تسابق إلى البذل والتضحية بالغالي والنفيس.

 

 

في المداخلة الأولى: لأن الإنسان بحقيقته الجوهرية مصداق لعظمة الخلقة بكل أبعادها، ومساحة للكرامة الإلهية، لم يرتضي السيد الشهيد (رض) الذي عرف حق المعرفة حقيقة هذا الإنسان، إلا أن يكون مصداقاً عملياً حياً في البذل ليكون بحق الإنسان القدوة من منطلق فهمه لحقيقة الدور والمؤثرية التربوية مع سماحة الشيخ والدكتور علي جابر المفكر والباحث والأستاذ الجامعي والصديق الصادق القريب من شهيدنا الأسمى على امتداد عقود من الزمن. ليحدثنا عن فلسفة الإنسان القدوة ومؤثريته التربوية في نموذج السيد نصر الله

 

في المداخلة الثانية: اثنان وثلاثون عاماً ونيف في أعلى الهرم في قيادة المقاومة، وقبلها اثنان وثلاثون عاماً ونيف أيضاً من التحصيل والإعداد والتربية والتهذيب، فضلاً عن المسؤوليات التنظيمية عمر لا يختزل ببضع وريقات أو دقائق، إذ كان كل موقف وكل حضور وكل خطاب بل وكل عمل، مصداقاً حياً للتربية على المقاومة، لأنها الثروة الكبرى التي نمت على يدي سماحته، ولإيمانه بأن هذه المقاومة هي فعل إيمان وسلوك إنسان، لم تنفك كلماته ومواقفه عن التربية على مبادئها ومفاهيمها ورسالتها، لأنها الركيزة الذي ستحفظ هذا المجتمع وتسير به في سياق مشروع الهداية الإلهية للوصول إلى الحياة الطيبة. فالتربية على المقاومة في خطابات ومواقف السيد نصر الله هي عنوان المداخلة الثانية التي سيتفضل بها علينا الباحث والأستاذ الجامعي، ورفيق درب السيد الشهيد على مدى عقود من الزمن، مدير عام مركز الأبحاث والدراسات التربوية د. عبد الله قصير.

 

 

المداخلة رقم 1: (الشيخ د. علي جابر / لبنان)

بدأ الشيخ د. جابر كلامه من خلال:

أتقدم أولاً بالشكر الجزيل لمركز الدراسات التربوية على هذه الفرصة الثمينة للحديث عن الشخصية القدوة وفلسفة هذه الشخصية لدى سماحة سيدنا الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله رضوان الله تعالى عليه.

 

عنوان الإنسان القدوة هو عنوان له بعدان: بعد فلسفي وآخر قرآني.

في البعد الفلسفي: تمثل نظرية الإنسان الكامل أساسًا في الرؤية الفلسفية عند العرفاء والمتصوفة للإنسان القدوة، وهي نظرية لها حضور في كلمات متقدمي الصوفية كالشيخ محي الدين ابن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي وتلميذه صدر الدين القونوي. إلا أن المجلي لهذه النظرية بصورة علمية مستقلة ومتكاملة هو عبد الكريم الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل". والإنسان الكامل يمثل في هذه النظرية ذروة القوس الأعلى في مراتب الوجود، فهو خليفة الله تعالى في أرضه ومثال نور الله سبحانه في سمائه، وهو مظهر الأسماء الإلهية كما يقول الحكيم والفيلسوف صدر الدين الشيرازي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو العبد الحقيقي الذي يعبد الله تعالى في جميع المواطن والمظاهر، كما يعبده بجميع أسمائه وصفاته، لأنه يعرف الحق بجميع المشاهد والمشاعر، فهو جامع للمعرفة وللعبودية. ولذا يقول الملا صدرا أنه سمي بهذا الاسم أي إنسان كامل، أكمل أفراد الإنسان هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

من هنا وفي جانبٍ من نظرية الإنسان الكامل، يشير المتصوفة إلى ما يسمونه الحقيقة المحمدية التي تتجلى بكاملها في الإنسان الكامل، آدم عليه السلام، ثم في الأنبياء والرسل، وآخرهم وسيدهم وأكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خلفاؤه وورثته الذين لا يخلو منهم زمان إلى يوم القيامة. فالنبي السيد الخاتم هو العلة الغائية للوجود، كما يتجلى ذلك في حديث "لولاك لما خلقت الأفلاك"، وفي حديث شريف عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: "أنا سيد ولد آدم وصاحب اللواء وفاتح باب الشفاعة يوم القيامة".

إن ذات النبي صلى الله عليه وآله بنظر الفيلسوف والعارف الشيرازي هي البرهان الأعظم الهادي إلى الله تعالى وصاحب مقام الشفاعة الكبرى، وهو مستقل في السير إلى الله والوصول إليه، ويتلوه الولي الإمام السائر إليه تعالى بمتابعة النبي، كما قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي".

إن هذا النبي الإنسان الكامل بنظر الشيرازي، وهو أسوة البشر في عقله العملي، ونقصد به سيرته ومسلكه الأخلاقي حيث تعالى: "وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" وهكذا سائر قواه وأعضائه الظاهرية والباطنية، حيث يقول تعالى: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى".

والخلاصة أنه يمكننا القول في هذا البعد الفلسفي أن الإنسان القدوة هو الإنسان الحائز على الكمال التام، أو الذي يقترب من التمام عبر المتابعة للتام، فيتحول إلى مثلٍ أعلى يحاكي الحق تعالى ومَظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته العليا.

 

أما في البعد القرآني للإنسان القدوة: فنتحدث في هذا البعد عن ثلاث آيات في القرآن الكريم تتحدث عن الأسوة. يقول تعالى في سورة الأحزاب: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يغزو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا".

ويقول تعالى في سورة الممتحنة: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه".

ويقول تعالى في سورة الممتحنة أيضًا في موضع آخر: "لقد كان لكم فيهم، وهو يتحدث عن الأنبياء والرسل، لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".

والأسوة في اللغة تعني القدوة والمثال الصالح للتشبه به. إن الأسوة عادة ما تُحدث في نفس الإنسان انجذابًا إليها باعتبار الكمالات والفضائل المجتمعة فيها، وشعور المقتضي أنه بإمكانه تحقيق هذه الكمالات في نفسه.

 

من خلال اتباع الأسوة والتمثل بها، تميل النفس الإنسانية إلى السير نحو الكمال، وأن تخرج من المادية إلى التجرد، لأنها نفس مفطورة على العقل والتفكير والنظر في الأمور التي تعرضها. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بالتأسي. إذاً، الأسوة حاجة إنسانية تخدم كمال الإنسان أو سعيه نحو الكمال، وإنما ينال حظه من ذلك بحسب استعداده وقوة الفطرة لديه وحجم الموانع.

هذه الحقيقة عالجها القرآن الكريم وقدم الأسوة والمثال الصالح للإنسان ودعاه إلى التأسي به واتباعه. ونلاحظ أن الآيات الثلاث قدمت لنا الأسوة مطلقةً بلا قيد وبلا تحديد لجانبٍ دون جانب آخر أو لحال دون أخرى، وذلك لأن الأسوة في هذه الآيات الثلاث هم الأنبياء وهم معصومون، تصلح كل جهاتهم وأحوالهم لتكون أسوة وقدوة للإنسانية. إذاً، هم يمثلون الإنسان الكامل ولكن بالصورة البشرية والعملية.

ما خلا الآية الرابعة في سورة الممتحنة، "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه". ما خلا هذه الآية، فإنه ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الذين معه معصومين، إلا أن هذه المعية لهم مع إبراهيم عليه السلام تعطيهم ضمانة اعتقادية وسلوكية للتأسي بهم.

إذاً، التأسي هنا يصبح على مرتبتين: الأولى كاملة، وهي التأسي بالأنبياء والأوصياء المعصومين عليهم السلام. والثانية غير كاملة، وهي التأسي بمن يلي المعصومين، لكنهم على هدي المعصومين، وهم يمثلون أسوة صالحة ولو كانت مع الواسطة. بمعنى بواسطة المعصوم التام، كما نجد في قوله تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، جعل الهدى الذي هم عليه هو جهة الاقتداء بالنسبة لغيرهم.

المعنى الصحيح على كل حال، مع أنّ الآية فيها خطاب للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. لكنني أرى أن المعنى الصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وآله مأمور باتباع هدى الله تعالى الذي ينتسب إليه هدى هؤلاء الأنبياء، فتكون نسبة الهدى إليهم نسبة تشريفية. لأن الله تعالى يقول في موضع آخر: "ذلك هدى الله"، وليس في الآية السابقة دلالة على أنه صلى الله عليه وآله يتبع هؤلاء، بل لا يصح ذلك. ونخلص طبعاً، لا يصح ذلك، لأنه الأكمل بين الأنبياء ولأن شريعته ناسخة للسابقة.

ونخلص في البعد القرآني إلى أن المولى تعالى قدم للإنسانية أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده الصالحين أسوة وقدوة لكل الناس، كما أن هذا التأسي هو أسلوب تربوي فعال استفاد منه الأنبياء لتربية أتباعهم (الأصحاب)، بحسب المصطلح، الذين شكلوا بدورهم أسوة لغيرهم ممن لم يلتق بالنبي، وهم بحسب المصطلح التابعون.

 

قال تعالى: "يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". إن هذه الأسوة في النبي والإمام عليهما السلام هي المعبر عنها بالسنة الشريفة التي تعني القول والفعل والتقرير للمعصوم عليه السلام.

 

أهم العناصر التربوية في شخصية شهيدنا الأسمى (قدس سره). لا بد من القول إن تحقق الشخصية القدوة على مستوى عام وشامل ليس بالأمر السهل الذي يتكرر في كل وقت، لأن اجتماع الخصائص اللازمة تحتاج إلى دورة زمنية قد تطول بحسب توفر مقتضياتها وارتفاع موانعها وتهيؤ شروطها، وهي في المعصوم أصعب.

لقد شهدنا ذلك في شخصية الإمام الخميني (قدس سره) ثم في شخصية سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله الشريف)، إلى أن ظهرت شخصية الشهيد الأسمى، السيد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه). ويمكننا أن نقول بصدق أن شخصية سيدنا الشهيد الأسمى مثلت مستوى رفيع للإنسان القدوة في درجة عالية من درجات الكمال، ولها شواهد وبراهين لتوصيف سيدنا الشهيد إنسان كامل بدرجة عالية وقدوة في عصره وزمانه، وهي:

 أولاً: المعرفة المباشرة، لكل من كان على قرب منه وعلى علاقة وثيقة شخصية أو عملية به، فإنه عاين خصائصه الحميدة وسمو نفسه وفرادة قيادته وميل القلب إليه كأحب ما يكون، إلى الحد الذي يأسر ويحمل على محاكاته والتشبه به.

ثانياً: شهادات الأعلام عن بعد، الذين كانوا يتابعون سيدنا الشهيد الأسمى، وانشدادهم إلى خطاباته ومواقفه، وإعرابهم عن حبهم الشديد له، وأنهم يرون فيه مستقبلاً مهدوياً، وتوصياتهم بملازمته وخدمته. وقد حصل شيء من ذلك معي أنا شخصياً، فقد صرح بذلك المرحوم آية الله الشيخ محمد تقي مصباح يزدي (رضوان الله تعالى عليه)، وقال إن أعظم الأعمال القريبة إلى الله تعالى هي خدمة هذا السيد، وعندما سألته قبل أن أغادر مكتبه في قم أوصاني، قال: لقد أوصيتك، وهو يعرف أن شغلي كان قريبًا من سماحة الشهيد السيد. قال لي: أوصيتك أن تكون في خدمته.

ثالثًا: وهو البرهان الأوضح على كماله وأسوة حسنة في زماننا التي عشنا معها سنين طويلة من أعمارنا، فشهدنا تعلق الناس به من القريب والبعيد حتى صارت محبة السيد الشهيد الأسْمَى وتعلق القلوب به ظاهرة منتشرة في طول وعرض لبنان والبلدان العربية والإسلامية بل والكثير من دول العالم. إن التأثير الواسع لشخصية سماحته في النفوس، أشبه ما تكون بالولاية التكوينية على قلوب الناس وأحوالهم التي للمعصوم عليه السلام، بحيث يأخذ بهم إلى الحق تعالى ولو في بعض الجهات.

 

أما العناصر التربوية في شخصية سيدنا الشهيد الأسْمَى، فأبرزها:

أولًا: الصدق الذي تجلى مصداقيةً في كلامه ومواقفه وخطاباته، وما كان يعد به أو يحدّث به، فلا نستغرب بعد إذن أن لقّبه جمهور المقاومة بل والكثير من الناس حتى البعيدين عن بيئة المقاومة، لقبوه بصادق الوعد. وعُرف به حتى عند أعدائه، فكنا نجد المستوطنين الصهاينة يعتبرون كلامه ولا يُصدقون حكومته. وقد رأينا كيف أن كل ما يقوله السيد الشهيد الأسْمَى كان يؤخذ أخذ المسلمات ويتعامل معه بصدق سواء كان في الشأن السياسي أو الإرشاد أو الوعظ الديني، فالموعظة البسيطة التي كان يخطبها شهيدنا كانت تترك أثرًا كبيرًا يتناقلها الناس، ولو هي نفسها قيلت من غيره من العلماء لعَلّها مرت مرور الكرام. وما هذه المقبولية إلا لصدق الشهيد الأسْمَى.

ثانيًا: الإخلاص والتفاني إلى حد الشهادة والتضحية بالأهل والنفس. ولعل الحدث المفصلي في حياة سيدنا كان استشهاد السيد هادي، والذي تحول إلى قوة دفع لمسيرة المقاومة وقيادة سماحته لما ترك من أثر في نفوس الناس في لبنان وخارجه. فأكبروا فيه إيثاره وتفانيه بقضية المقاومة والنهج الإيماني والجهادي الذي يلتزم به، ثم بعد ذلك ختم حياته بالشهادة في أشرف معركة دفاعًا عن غزة وفلسطين وفي ذروة الاشتباك، وهو ما سنجد أثره الأعظم في قادم الأيام إن شاء الله، حيث تحول الشهيد الأسْمَى إلى مربي في شهادته لأجيال لم تولد بعد.

ثالثًا: الزهد في الدنيا وتنزهه عن المآرب والمصالح. وقد كان في معيشته كأي مجاهد في المقاومة وحزب الله، حتى أنه تحدث عن راتبه وما يُحسم منه في بعض المقابلات. لم يترك ذهبًا ولا مالًا ولا عقارًا لأهله، لم يملك منها شيئًا في حياته. هذا النموذج المتقدم في الزهد كان يواسي فقراء المجاهدين والناس البسطاء، وهو القائل: "أنا لست بيك ولا أبي بيك، ولا جدي كان بيك، بل هو ابن حي الشرشبوك في ضاحية بيروت الفقيرة أيام السبعينات"، وهو ما جعل الناس يرون فيه أنفسهم وأنه واحد منهم.

رابعًا: كان الشهيد الأسْمَى الأب النموذجي في أسرته، والابن النموذجي لوالديه، والأخ النموذجي لإخوته، والزوج النموذجي الذي استطاع أن يدخل إلى بيوت الناس ومشاكلهم الاجتماعية والأسَرية، وهو لم يفوت فرصة لإعطاء التوجيه التربوي والاجتماعي وإرشاد الناس إلى الحلول التي يبحثون عنها لعائلاتهم.

 

أختم لأقول: لا شك في نجاح نموذج القدوة للشهيد الأسْمَى في الإيمان والتدين كما في السياسة والمقاومة. فتربى في أفيائه هذا الجمهور الكبير الذي آمن لا بشخصه فقط، وإنما بنهجه والتزامه وتدينه. وعلينا أن نحمل هذا الإرث وهذه الأمانة ونمضي بها قدمًا إلى المستقبل المهدوي الذي بذل له الشهيد الأسْمَى حياته.

 

المداخلة رقم 2: (د. عبد الله قصير/ لبنان)

بدأ د. قصير كلامه من خلال الآتي:

المقدمة

تعد تجربة المقاومة الإسلامية من أبرز الظواهر الفكرية والتربوية والسياسية التي شهدها العالم ولاسيما العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، وقد ارتبطت هذه الظاهرة بشكل وثيق بشخصية الأمين العام لحزب الله، الشهيد القائد السيد حسن نصر الله، الذي استطاع أن يُحوّل المقاومة من مجرد ردة فعل عسكرية على الاحتلال إلى مشروع حضاري شامل يستبطن أبعادًا ثقافية وتربوية وسياسية، وإعلامية، وروحية.

لقد قدم السيد نصر الله نموذجا فريدًا في القيادة التربوية المقاومة، حيث لم يقتصر خطابه على التعبئة العسكرية أو السياسية، بل انطلق من رؤية عقائدية وإيمانية تستند إلى القرآن الكريم وسيرة الرسول وأهل البيت (عليهم السلام)، لتبني إنسانًا جديدًا متسلحا بالعلم، والإيمان والأمل، والثقة بالنصر الإلهي. ومن هنا، فإن دراسة التربية على المقاومة في خطابات ومواقف السيد نصر الله لا تُعد مجرد رصد السيرة قائد سياسي أو عسكري، بل هي دراسة في مدرسة متكاملة من التربية الروحية والفكرية والثقافية، وتُمثل إضافة نوعية في الفكر الإسلامي المعاصر.

ويُضاف إلى ذلك أن دراسة خطابات السيد نصر الله تمثل فرصة لفهم كيفية تلاقي البعد السياسي مع البعد التربوي في مشروع مقاوم متكامل، الأمر الذي يجعل هذه الدراسة ذات أهمية مزدوجة فكرية وتطبيقية.

 

إشكالية البحث

الإشكالية المركزية التي يحاول هذا البحث معالجتها هي: كيف استطاع السيد حسن نصر الله أن يحوّل خطابه ومواقفه إلى عملية تربوية متكاملة في بناء ثقافة المقاومة، بحيث غدت المقاومة عنده مشروعًا حضارياً شاملاً يتجاوز حدود لبنان ليصل إلى الأمة والعالم؟

 

وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية أبرزها:

ما المقصود بالتربية على المقاومة، وما هي دوائرها العملية في مدرسة السيد نصر الله؟

 

كيف جسد السيد نصر الله مفهوم "القدوة" في التربية، وما انعكاس ذلك على المجتمع المقاوم؟

ما الخصائص اللغوية والمضمونية التي تميز بها خطابه التربوي؟

كيف ربط السيد نصر الله المقاومة بالأبعاد الثقافية والإيمانية والروحية الوجدانية والإعلامية والنفسية؟

ما هي أبرز ملامح الأثر التربوي لخطاباته على دوائر الجمهور المختلفة (الكوادر الحزب المجتمع، الأمة)؟

 

أهمية البحث

تبرز أهمية البحث في كونه يسعى إلى قراءة تجربة تربوية فريدة قل نظيرها في العصر الحديث، حيث يلتقي البعد التربوي مع البعد المقاوم ضمن مشروع متكامل. كما أن هذه التجربة تمثل مصدر إلهام لشعوب المنطقة، خصوصا في ظل التحديات الكبرى التي تواجهها من احتلال، وعدوان ومحاولات استلاب للهوية والثقافة.

 

أهداف البحث

توضيح مفهوم التربية على المقاومة وأبعاده في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر.

تحليل خطابات السيد نصر الله من زاوية تربوية وثقافية.

إبراز دور القائد القدوة في بناء المجتمع المقاوم.

الكشف عن الأثر النفسي والروحي والاجتماعي الخطابات السيد نصر الله في دوائر الجمهور المختلفة.

 

منهجية البحث

يعتمد هذا البحث على المنهج الوصفي التحليلي إذ يقوم بجمع النصوص والخطابات والمواقف الصادرة عن السيد نصر الله، ومن ثم تحليلها للكشف عن عناصرها التربوية والثقافية، وربطها بالمفاهيم الإسلامية الكبرى كالإيمان، والصبر والجهاد، والأمل، والنصر الإلهي. كما يوظف المنهج الاستقرائي في تتبع مظاهر التربية على المقاومة في خطابه وممارساته العملية، وصولا إلى صياغة استنتاجات عامة يمكن أن تساهم في بلورة معالم "مدرسة التربية على المقاومة."

 

 

خطة البحث

المطلب الأول: التربية على المقاومة - المفهوم والأسس.

المطلب الثاني: المقاومة في فكر السيد حسن نصر الله.

المطلب الثالث: الخطاب التربوي للسيد نصر الله - المضمون والأسلوب والأثر.

المطلب الرابع دوائر التربية عند السيد نصر الله.

الخاتمة: النتائج والتوصيات.

 

المطلب  الأول: التربية على المقاومة - المفهوم والأسس

أولاً: معنى التربية على المقاومة

تعد التربية على المقاومة عملية تربوية شاملة تهدف إلى بناء الفرد والمجتمع على قيم الرفض والصمود، والنهوض في مواجهة العدوان والاحتلال والاستبداد وهي ليست مجرد عملية إعداد وتأهيل عسكرية أو أمنية، بل هي مشروع تكويني متكامل ينطلق من بناء العقيدة والإيمان، ويمتد إلى صياغة الوعي والثقافة، ويترسخ في الممارسة العملية والسلوك اليومي.

فقد قال في كلمة له "نحن في مثل المرحلة التي نعيشها أحب أن أؤكد على قضية التزكية والتربية، والتوجيه القعائدي والتعبئة الإيمانية، لأن الاهتمام بالجانب العلمي والتعليمي حكماً سيكون وبشكل طبيعي جداً. نحن في هذه المرحلة التي نحتاج فيها إلى مستوى عالٍ من التوجيه العقائدي، والتعبئة الإيمانية، لأجيالنا الناشئة ولأجيالنا الحاضرة ايضاً، ولكل أهلنا وشعوبنا".

وعندما نتحدث عن التربية على المقاومة في خطابات السيد حسن نصر الله، فإننا نقف أمام مدرسة متكاملة أعادت تعريف المقاومة باعتبارها خيارًا حضاريا شاملاً لا ينحصر في ساحة القتال، بل يتسع ليشمل التربية الأسرية، والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة، وكل مجالات الحياة الاجتماعية. وإذا كانت المؤسسات التعليمية التربوية تقوم بغرس القيم الإنسانية في عقل الطالب ومنها مقاومة الاحتلال والظلم فإن المؤسسات الاجتماعية لها دور رعاية البيئة المجتمعية للمقاومة. وقد قال (قدس سره) "يأتي دور المؤسسات التي تقوم لترعى اليتيم وعائلة الشهيد والجريح والأسير والمستضعف الذي لا يجد من يعوله، ويأتي دور المؤسسات التربوية التي تحمل لأجيالنا العلم والتربية والثقافة، وقبل كل شيء القيم والأخلاق الإنسانية".

 

ثانياً: دوائر التربية على المقاومة

يمكن تحديد دوائر التربية على المقاومة عند السيد نصر الله في أربعة دوائر:

 

1- الدائرة العقائدية والإيمانية: حيث ينطلق السيد نصر الله من الأساس التوحيدي والإيمان العميق بالسنن الإلهية. فقد كرر مرارًا في خطاباته أن النصر لا يُقاس بالعدد والعدة فقط، بل بالاعتماد على المعادلة القرآنية: «إن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (سورة محمد: (7). ومن هنا، فإن التربية على المقاومة تبدأ من غرس الإيمان واليقين بالله، والتوكل عليه، والالتزام بالتزكية والتربية الروحية وفي موضوع التربية على المقاومة يبدأ سماحته مع التأسيس العقائدي والايماني على المشروع الإنساني في خطابه ومواقفه وهو لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا تحدث عنها (التربية العقائدية والايمانية، التوحيد العملي منهج ومواقف الرسول وأهل البيت (عليهم السلام)).

2- الدائرة العملية والسلوكية: وهي ترجمة عملية للقيم الإيمانية في سلوكيات الأفراد والمجتمع. فالمقاومة ليست شعارا يرفع بل ممارسة تتجسد في التضحية، والانضباط، وتحمل المسؤولية، وحب الوطن، وخدمة الناس. ومن هنا جاء حرص السيد على التأكيد أن المقاومة ليست فعلا انفعاليا"، بل هي التزام ديني وأخلاقي وحضاري.

3- الدائرة الثقافية والمعرفية: التربية على المقاومة عند السيد نصر الله ترتبط ارتباطا وثيقا ببناء وعي ثقافي نقدي، يرفض الاستسلام للهيمنة الإعلامية والسياسية والثقافية للعدو. فخطابه يُصاغ بلغة "السهل الممتنع" التي تصل إلى كل الفئات المثقف والمتعلم، البسيط والأمي، الكبير والصغير. ومن خلالها، تتم إعادة تشكيل الوعي الجمعي ليصبح جزءًا من مشروع المقاومة. لقد ملك الألباب والقلوب عاش في وجدان الناس بمواقفه القوية والثابتة والصادقة والقاطعة والواضحة.

4- الدائرة الشعبية والجماهيرية: وهي الأوسع نطاقا، حيث تتحول التربية على المقاومة إلى ثقافة عامة تغرس في المجتمع عبر المناسبات الدينية والوطنية، مثل عاشوراء ويوم القدس، فتربط القيم الدينية بقيم المقاومة وتحولها إلى وعي جمعي راسخ.

 

ثالثاً: القدوة في التربية على المقاومة

أحد أبرز ركائز التربية في مدرسة السيد نصر الله هي القدوة العملية. فالقائد ليس مجرد ملقن للشعارات أو مطلق للتوجيهات، بل هو النموذج الحي الذي يجسد في شخصيته وممارساته القيم التي يدعو إليها. ومن هنا، فقد شكل السيد نصر الله قدوة عملية للكوادر والأجيال الجديدة حيث جمع بين العلم والجهاد، وبين القيادة الاستراتيجية والحضور الميداني، وبين الإخلاص الله ورعاية الناس وخدمتهم. وقد انعكس ذلك في مستويات متعددة:

على مستوى الكوادر الحزبية، الذين تأثروا مباشرة بتوجيهاته وسلوكه.

على مستوى المجتمع العام، الذي وجد في شخصيته مثال القائد الصادق الوفي.

على مستوى الأمة، حيث تجاوزت صورته حدود لبنان لتصبح رمزا عالميا للأحرار والمستضعفين.

 

رابعاً: التربية على المقاومة كعملية حضارية

يصر السيد نصر الله في خطابه على أن المقاومة ليست مجرد رد فعل على العدوان الإسرائيلي، بل هي تكليف شرعي وعقلي ووجداني وفطري وهو يؤكد أن التربية على المقاومة تهدف إلى إعداد جيل يتزكى إيمانيا، ويتسلح بالعلم والمعرفة والكفاءة، ليكون قادرًا على المشاركة في بناء المشروع الحضاري الإسلامي. وهذا ينسجم مع ما ورد في خطاب له إننا "نريد جيلاً يتزكى، جيلاً مؤمناً متديناً ملتزماً بالحدود الإلهية، مؤيداً للوظائف الشرعية الملقاة على عاتقه، وأيضاً نريد جيلاً متعلماً واعياً، يملك الكفاءة والتخصص والخبرة، والقدرة العلمية والتجربة، لأننا عندما نتحدث عن الأهداف الإسلامية، نتحدث عن بناء حضاري كبير، نتحدث عن إقامة دولة العدل الإلهي في العالم، نتحدث عن مشروع عالمي بهذا الحجم".

إذن، فإن التربية على المقاومة في فكر السيد حسن نصر الله تقوم على أسس متكاملة: العقيدة السلوك الثقافة، والقدوة، وتتحول من خلالها المقاومة إلى مدرسة إنسانية وحضارية تسعى لبناء مجتمع متكامل قادر على الصمود والإبداع والمشاركة في نهضة الأمة.

 

المطلب  الثاني: المقاومة في فكر السيد حسن نصر الله

أولاً: المقاومة كمشروع حضاري شامل

يرى السيد حسن نصر الله أن المقاومة لا يمكن اختزالها في بعدها العسكري أو الأمني، فهي مشروع حضاري متكامل يتجاوز حدود المعركة مع العدو الإسرائيلي إلى إعادة صياغة وعي الأمة، وبناء إنسان جديد قادر على المشاركة في نهضة حضارية شاملة. ومن هنا، فإن المقاومة عنده ليست حالة ظرفية مرتبطة برد فعل مؤقت، بل هي مشروع دائم ممتد يستند إلى الإيمان والوعي، ويستهدف بناء مجتمع متكامل على المستويات التربوية والثقافية والسياسية والاجتماعية.

لقد اعتبر السيد نصر الله أن الانخراط في المقاومة ليس خيارًا سياسيا فقط "بل هو تكليف شرعي وإلهي، يتصل بكرامة الإنسان وحريته وحقه في الحياة. فهو صاحب مشروع حضاري انساني وحدوي للمظلومين والمستضعفين والمهمشين، يستنهضهم ويمسك بايدهم ليزرع فيهم الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة والحضور في الساحات ورفض العدوان والاحتلال والظلم والطغيان". وكان يقول "إن هذه المقاومة لم تكن مجرد فعل حماسي وانفعالي على الاحتلال الذي حصل في لبنان، وإنما كانت ترجمة لتكليف إلهي ملقى على عاتق المسلمين والمستضعفين والمقهورين الذين تحتل أرضهم ويعتدى على كراماتهم وتنهب أموالهم ويتآمر على خيراتهم. وفي حال هذا النوع من المقاومة لا تنتظر الظروف والشروط والمقدمات والأسباب، وإنها واجب الإنسان بمنطق العقل والوجدان والضمير والفطرة الإنسانية التي تأبى عيش الأذلاء".

 

ثانياً: المقاومة وعاشوراء

أحد أبرز معالم فكر السيد نصر الله هو ربطه المستمر بين المقاومة وعاشوراء. فهو ينطلق من كربلاء باعتبارها المدرسة الكبرى للتربية على المقاومة، حيث جسد الإمام الحسين (عليه السلام) أسمى معاني التضحية في سبيل الله والحق. ولذلك، تتحول ذكرى عاشوراء في خطابه إلى محطة تربوية متجددة تغرس فيها قيم الصبر، والفداء، والاستعداد للتضحية في سبيل الكرامة والعزة.

ومن خلال هذا الربط، تتحول عاشوراء من مجرد مناسبة دينية إلى مخزون روحي وثقافي يغذي مشروع المقاومة، ويرسخ في وجدان المجتمع أن خيار المواجهة ليس طارنا بل هو امتداد لمسيرة تاريخية كبرى تنطلق من كون التربية عملية أساسية في مشروع الأنبياء والرسل حيث قال "إن الإمام الخميني كان يقول إن جميع الكتب السماوية هدفت لجعل الإنسان تحت برنامج التربية والتعليم الإلهيين، ليصبح أحسن الخلائق، وإن أشرف عمل في العالم هو تربية طفل واحد، وتزويد المجتمع بإنسان حقيقي". "وإن عملية التربية والتعليم نحن نرضى أن يكونوا في كفة ككفتي ميزان، لكن الأولوية يجب أن تكون للتربية ثم التعليم".

 

ثالثاً: المقاومة والثقافة

يولي السيد نصر الله أهمية قصوى لبناء الثقافة المقاومة، معتبرًا أن المعركة مع العدو ليست عسكرية فقط، بل هي معركة وعي وثقافة. ومن هنا جاءت خطبه مشبعة بالمفردات الثقافية التي تعزز الثقة بالنفس، وترفض الهزيمة الداخلية، وتعيد صياغة العلاقة بين الفرد وهويته الوطنية والدينية، وزراعة القيم المستندة إلى ثقافة المقاومة فضلاً عن الأمل بالمستقبل.

لقد استطاع أن يعيد للجماهير ثقافة الثقة بالنفس، والإيمان بقدرتها على الانتصار وبرفعه شعار "لقد انتهى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات". بهذا الشعار نقل المجتمع من ثقافة الانكسار إلى ثقافة الأمل، ومن حالة الهزيمة النفسية إلى الثقة بالقدرة على مواجهة العدو والانتصار عليه.

 

رابعاً: المقاومة والإعلام

أدرك السيد نصر الله باكرًا أن الإعلام جبهة أساسية من جبهات المقاومة. فخطاباته لم تكن مجرد رسائل موجهة إلى الداخل، بل تحولت إلى حدث إعلامي عالمي يُتابع من قبل الأصدقاء والخصوم على حد سواء.

وقد امتاز خطابه الإعلامي بعدة سمات:

1- المصداقية: حيث ارتبطت أقواله بالفعل، حتى أصبح "صادق الوعد" في نظر جمهور المقاومة والعدو في آن، حيث امتازت خطاباته ومواقفه المصداقية، فهو إذا قال فعل، حتى جمهور العدو قبل الصديق يثق بما يقوله وبما يعلنه من مواقف وطروحات. وكان من سماته الصدق مع نفسه والصدق مع الله وكذلك مع الناس، وهذا ما جعله يكشف الأقنعة عن كل الكذب الدبلوماسي للحكام والحكومات والسياسيين.

2- البساطة والوضوح: عبر لغة السهل الممتنع (اللغة التي يفهمها الجميع).

3- الاستراتيجية النفسية: حيث نجح في تحويل التهديد إلى فرصة، مستخدما الإعلام كأداة حرب نفسية أربكت العدو ورفعت معنويات الداخل واعتبره العدو أستاذا في الحرب النفسية. يقول عنه السفير الإسرائيلي في أميركا دانيل إيالون أنه "أكثر الزعماء في العالم العربي مكرا وأخطرهم".

 

خامساً: الحرب النفسية وتحويل التهديد إلى فرصة

من أبرز إسهامات السيد نصر الله الفكرية والعملية في ميدان المقاومة هو نجاحه في إدارة الحرب النفسية. فقد استطاع أن يواجه التهديدات الإسرائيلية ويحولها إلى عناصر قوة، إذ كان يرد على تهديدات العدو بثقة عالية، فيشعر جمهوره بالاطمئنان ويزرع في نفوسهم الأمل والثبات. حيث قال "طبعاً في الثقافة الدينية، الأمل هو جزء من التربية الدينية والإيمانية، وهو جزء من الثقافة الدينية، لأن من يؤمن بالله سبحانه وتعالى في كل الأديان من يؤمن بأن الله عز وجل حاضر وناظر هذا الإنسان لا يمكن أن ييأس ودائماً يعيش حالة الأمل".

هذا البعد النفسي كان جزءًا أصيلا من مشروعه التربوي، لأنه اعتبر أن أي معركة لا تُحسم فقط بالسلاح، بل تحسم أولا في ميدان الوعي والإرادة.

 

إذن المقاومة في فكر السيد حسن نصر الله هي مشروع حضاري متكامل يرتكز على:

  • البعد العقائدي والشرعي.
  • البعد الثقافي والتربوي.
  • البعد الإعلامي والنفسي.
  • البعد الروحي والوجداني (عاشوراء).

وبهذا، تتحول المقاومة عنده إلى مدرسة حياة وصناعة إنسان، لا إلى فعل عسكري محدود.

 

المطلب الثالث: الخطاب التربوي للسيد حسن نصر الله - المضمون والأسلوب والأثر

أولاً: المضمون التربوي للخطاب

يمثل الخطاب التربوي للسيد حسن نصر الله مدرسة متكاملة للقيم والمبادئ، يجمع بين البعد الإيماني والروحي، والبعد العقلي والفكري، والبعد الاجتماعي والوطني. إذ لا يقتصر دوره على قيادة المقاومة العسكرية، بل يمتد إلى بناء الإنسان والمجتمع المقاوم.

  • ركز السيد في خطاباته على التربية العقائدية والإيمانية، من خلال غرس مفاهيم التوحيد والعمل الصالح، والاقتداء بسيرة الرسول (ص) وأهل البيت (ع) مؤكدًا أن المقاومة هي واجب ديني وأخلاقي وشرعي، وليست مجرد رد فعل انفعالي.
  • عمل على تعزيز الثقة بالنفس في مواجهة الاحتلال والظلم، زارعا مفهوم الاقتدار لدى المجتمع ومفهوم الأمل بالنصر وحتميته الإلهية "إن تنصروا الله ينصركم".
  • شدد على بناء جيل متعلم، واع، كفء، قادر على العمل الحضاري، ربط بين التربية الدينية والتعليمية، وركز على أن الأولوية هي للتربية قبل التعليم، بما يعكس اهتمامه بالجانب الروحي والأخلاقي للفرد والمجتمع. وكان مصداقاً حقيقياً للآية الكريمة "وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (سورة الجمعة الآية رقم 2).
  • ربط المقاومة بمبادئ العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية، وجعل من القدس وفلسطين رمزية مركزية في خطاباته.

 

ثانياً: التربية على الولاية

في الخطاب والفعل كان يستحضر مواقف الإمام الخميني، والإمام الخامنئي، وبنفس الوقت ينتهز أي فرصة ليؤكد ويمارس انتماءه للولاية عملياً (أنا جندي للولي الفقيه). في أحد المؤتمرات الكبرى بعد عام 2000 م دخل الإمام الخامنئي إلى قاعة المؤتمر فتقصد السيد حسن نصر الله أن يقبل يد الإمام أمام كل الحاضرين ليبعث بهذا الفعل رسالة لكل المؤتمرين أن الإلتزام بالولاية أهم عامل للنصر، ويقول عندما نأخذ ثورة الإمام الخميني (قده) كنموذج متقدم وقدوة للحركة الإسلامية المعاصرة، نجد أن حركته أسقطت نظاماً عميلاً لأميركا، طاغية فاسداً مفسداً.

 

المطلب الرابع دوائر التربية عند السيد حسن نصر الله

أولاً: مفهوم الدوائر التربوية

تشكل التربية على المقاومة عند السيد حسن نصر الله منظومة متكاملة من دوائر تربوية مترابطة، تتيح توصيل قيم ومبادئ المقاومة إلى مختلف مستويات المجتمع، بدءًا من القادة المباشرين وصولاً إلى الجمهور العربي والإسلامي. هذه الدوائر تمثل شبكة تأثير ممنهجة تجمع بين القدوة العملية، والتوجيه المباشر، والخطاب الإعلامي، وصولاً إلى التربية المجتمعية والثقافية.

 

ثانياً: الدوائر التربوية الأربعة

1- الدائرة الأولى القادة والكوادر المباشرة: تضم فريق العمل الأقرب للسيد نصر الله، الذين يشكلون حلقة الوصل بينه وبين باقي دوائر التربية. يتميز هؤلاء القادة بتأثرهم العميق بشخصيته، وطبيعة حضوره وتفاصيل أفكاره ومشاريعه. لقد شكل السيد من نفسه نموذج القدوة العملية لهم، مما ساهم في نقل قيم الصبر، والتضحية، والانضباط والتخطيط الاستراتيجي إلى سلوكهم اليومي.

2- الدائرة الثانية العاملون في المؤسسات والوحدات: والتي تشمل كوادر حزب الله والمجتمع المقاوم الذين يلتقون بالسيد دوريًا في المناسبات الخاصة، أو في اللقاءات الداخلية والمؤسسات التعليمية والتدريبية. حيث تمكن هؤلاء من تلقّي توجيهاته مباشرة أو عبر مسؤولي الدائرة الأولى، ما ضمن انتقال القيم والمبادئ بشكل ممنهج من خلال هذه الدائرة، ومن خلال ذلك تم تعزيز الانضباط التنظيمي، وتربية المسؤولية وترسيخ الالتزام بالقيم التي يدعو إليها القائد. فكان يحث التربويين والعاملين في المؤسسات التربوية والتعليمية على صناعة الإنسان النموذج. فيقول سماحته "من خلال تقديم النموذج المختلف، الإنسان المؤمن والمضحي والإنسان الحضاري والخلوق والمؤدب والعطوف، فهذا النموذج المختلف تماماً هو أهم رد على ما يجري وما جرى في السنوات الأخيرة في المنطقة". في معركة الرأي العام ومعركة القناعات ومعركة الحرب النفسية.

3- الدائرة الثالثة الجمهور العام اللبناني: يشمل جميع أفراد المجتمع اللبناني عامة، وبخاصة جمهور المقاومة الذي يحضر الإطلالات العامة ويتفاعل معها، أو يتابعها عبر الوسائل الإعلامية. وقد نجح السيد حسن نصر الله في نقل رسائل الصمود والأمل والثقة بالنفس لهم، ما أدى إلى تكوين مجتمع مقاوم متكامل، صابر، متعاون ومستعد للتضحية. وقد أصبح هذا الجمهور نموذجًا حيًا لتأثير الخطاب التربوي في الواقع اليومي، وقد قال (قده) "طبعاً في الثقافة الدينية الأمل هو جزء من التربية الدينية والإيمانية، من يؤمن بأن الله عز وجل حاضر وناظر، هذا الإنسان لا يمكن أن ييأس ودائماً يعيش حالة الأمل" .

4- الدائرة الرابعة الجمهور العربي والإسلامي: والذي يضم النخب المثقفة وأصحاب الرأي في العالمين العربي والإسلامي، الذين يتابعون خطابه عبر المنصات الإعلامية والصحفية والإلكترونية. لقد تحول السيد عند هذا الجمهور إلى رمز عالمي للمقاومة الجهادية والمشروعية الأخلاقية، ونجح في زرع قيم الأمل والصبر، والانتماء الديني والوطني، وإعادة صياغة الوعي الجمعي حول مفاهيم المقاومة والعدالة والكرامة.

 

ثالثاً: أثر الدوائر التربوية

  • سمحت هذه الدوائر بتوسيع نطاق تأثير الخطاب التربوي من دائرة ضيقة إلى جمهور واسع، بدءًا من النخبة وصولاً إلى الجماهير الشعبية.
  • هذا التدرج سمح للخطاب بأن يكون تربويا بكامل أبعاده: عقلية، وجدانية، نفسية روحية، وأخلاقية، مؤثرًا على مستويات مختلفة، وجاعلا من المقاومة مدرسة حضارية متجددة عبر أجيال متعاقبة.
  • أسهمت في تحويل الجمهور من متلق سلبي إلى مشارك فاعل، قادر على التجاوب مع المبادئ، والانخراط في المجتمع المقاوم، كناشط وفاعل فيه.
  • ساهمت في إعادة تشكيل وعي الأمة والمجتمع، وجعلت من المقاومة ثقافة وعقيدة وسلوكا يوميا، مستندة إلى السنن الإلهية والآيات القرآنية التي تؤكد الصبر والثبات والنصر الإلهي.

"وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" (آل عمران آية 126).

"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" (محمد آية 7).

"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" (سورة البقرة آية 249).

 

رابعاً: المدرسة التربوية العملية

يمكن توصيف مدرسة السيد حسن نصر الله التربوية بأنها نموذج متكامل يجمع بين القدوة والخطاب، والمؤسسات، والمجتمع، حيث:

  • القدوة العملية تعطي النموذج المباشر للكادر والمجتمع.
  • الخطاب الميداني والإعلامي ينقل القيم والمعاني إلى مختلف الفئات.
  • المؤسسات التعليمية والتربوية تعمل على تعزيز التربية العملية والفكرية.
  • المجتمع العام يترجم القيم إلى سلوك وممارسة يومية.

بهذا الشكل، تتحقق عملية التربية على المقاومة بكافة أبعادها العقلية، والوجدانية، والنفسية والروحية، والأخلاقية، لتشكل مجتمعا متجددا، مستعدا لمواجهة التحديات، ومتمسكا بالقيم الإيمانية والوطنية، قادرًا على نقل مشروع المقاومة إلى الأجيال القادمة.

 

الخاتمة

إن البحث في الخطاب التربوي للسيد حسن نصر الله يظهر بوضوح مدى عمق المشروع التربوي والمقاوم الذي أسسه وطبقه على جميع مستويات المجتمع. فقد تبين من خلال المباحث الأربعة أن خطاب السيد لا يقتصر على البعد العسكري أو الأمني، بل يمتد ليشمل:

  • المضمون التربوي: يرتكز على غرس القيم الإيمانية، والعقائدية، والأخلاقية، وربط المقاومة بمبادئ العدالة والكرامة والواجب الإنساني. لقد نجح في تعزيز الهوية الفردية والجماعية، وإعادة بناء الثقة بالنفس لدى الجمهور، وتربية أجيال قادرة على مواجهة التحديات بروح الإيمان والصبر والمثابرة.
  • أسلوب الخطاب: يتميز بالوضوح، والبساطة، والمصداقية، والقدرة على مخاطبة جميع فئات الجمهور، من النخب إلى العامة، ودمج العقل بالعاطفة. لقد شكل هذا الأسلوب أداة فعالة لتأثيره النفسي والوجداني، وتحقيق التواصل المباشر مع الجمهور، وترسيخ القيم والمبادئ في الوعي الجمعي.
  • الأثر التربوي: انعكس على المجتمع بمستويات متعددة من القادة والكوادر المباشرة إلى العاملين في المؤسسات، وصولاً إلى الجمهور العام العربي والإسلامي. حيث أسهم خطاب السيد في بناء مجتمع مقاوم متكامل، متعاون، صابر، مضحي، ومتماسك، قادر على نقل مشروع المقاومة إلى الأجيال القادمة.
  • الدوائر التربوية: تمثل الهيكل العملي لتطبيق التربية على المقاومة، بدءًا من القادة المباشرين، مرورا بالمؤسسات، وصولا إلى الجمهور المحلي والعالمي. هذه الدوائر المكثفة والمتدرجة ساعدت على تحقيق انتشار القيم والمبادئ بشكل ممنهج ومؤثر وجعلت من المقاومة ثقافة متجذرة في حياة المجتمع اليومية.

 

في ضوء ذلك، يمكن القول إن خطاب السيد حسن نصر الله يشكل مدرسة متكاملة للتربية على المقاومة، تجمع بين القدوة العملية، والخطاب التربوي والمؤسسات الداعمة، والمجتمع المتفاعل، ليصبح نموذجًا عالميًا للقيادة الملهمة والمربية القادرة على غرس القيم الإيمانية وتربية الإنسان القادر على الدفاع عن وطنه وأمته ومجتمعه، مع الحفاظ على العزة والكرامة.

إن تجربة السيد نصر الله في التربية على المقاومة تظهر أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري أو سياسي، بل مشروع حضاري متكامل يدمج بين الفكر، والقيم، والسلوك والوعي، ليترك إرثا دائما للأجيال الصاعدة، ويجعل من المقاومة مدرسة حياة تستمر عبر الزمن.

 

المراجع:

  • القرآن الكريم
  • كلمات من نور، شهيد الأمة سماحة السيد حسن نصر الله حفل افتتاح مبنى مدرسة المهدي "ع" 8 تشرين الأول 1993 ، المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم - مدارس المهدي

 

مداخلات وأسئلة الحضور:

مداخلة وسؤال رقم 1 (حاج أبو إبراهيم زين الدين): لا شك أن الإحاطة بهذه الشخصية تتطلب جلسات وندوات. كان لدي استيضاح حول ما ذكره سماحة الشيخ الأستاذ العريق، عندما فصل بين البعد الفلسفي والبعد القرآني، وكأننا أمام خطين متوازيين. ألا يمكن أن يكون القرآن نفسه متضمنًا لمجموعة كبيرة من الأبعاد، بما فيها البعد الفلسفي؟

ثم أود أن أعقب بالقول بتقديري، في شخصية سماحة السيد، هناك نقطة أساسية يجب تسليط الضوء عليها، بالإضافة إلى القدرات التي ذُكرت في البعد التربوي، أو القدرة التربوية لسماحة السيد، فهو من القلائل الذين لديهم القدرة على الاستنهاض. قد نجد كثيرين لديهم القدرة على إعطاء مؤثرات كثيرة، لكن أن تصنع مجتمعًا مستنهضًا، هذه خاصية لا يمتلكها إلا القلائل. وأعتقد أن سماحة السيد الشهيد الأقدس، هو من القلائل جدًا في التاريخ لو استعرضنا من كانوا يمتلكون هذه القدرة الاستنهاضية، كان يكفي خطاب واحد أن يحرك ليس شارعًا، بل يحرك أمة. ودليلي على ذلك هذه النتائج التي رأيناها، سواء في فلسطين، في لبنان، في كل المحطات. أعتقد أن هذه من المزايا والخصوصيات التي يجب أن تعطى حقها.

جواب الشيخ د. علي جابر: في الواقع، بالنسبة للعرفاء، كنت أنقل كلامًا حول الإنسان الكامل، الذي تحدث عنه صدر الدين الشيرازي، الملا صدرا، وهو فقيه وعارف وفيلسوف شيعي كبير. عمومًا، هناك ثلاثية كما يقولون: العقل، والكشف، والوحي. الخط القرآني يمثل جانب الوحي بشكل واضح. هو الأساس في الدين، بلا شك. لكن في التكامل المعرفي، يعتبرون أن هذه الثلاثة تصب وتتطابق الحقائق فيهم بلا افتراق. فما يراه الفقيه يراه الفيلسوف، لكن بعقله. ما ينطق به الوحي يحكيه الفيلسوف، لكن يقدمه لك بغض النظر عن النص، يقدمه لك بما هو معطى عقلي. نفس الأمر بالنسبة للعارف، يطابق ما بين الانكشاف والشهود الذي يحصل له وبين معطيات الوحي، يعني القرآن والسنة. وهذا ما برع فيه برأيي، لأنني اشتغلت علميًا على الملا صدرا، ما برع فيه هو الملا صدرا هو بالعلاقة الجدلية التي صنعها بين العقل والوحي. هو كان يقرأ في القرآن، ويتبصر في القرآن الكريم، ثم يذهب يصيغ البراهين العقلية، ثم يعود بها ليقول: انظروا ما قاله القرآن، وما قالته السنة، أنه نفس الأمر في شرحه على أصول الكافي. يقول: هذه هي براهينه العقلية. فهي في الحقيقة تخدم الفضاء المعرفي الواسع، خارج دائرة المتدينين (البراهين العقلية).

 

مداخلة رقم 2 (د. يوسف أبو خليل): أود فقط أن تخصونا بهذا اللقاء بخاطرة، بقصة لها علاقة بالتربية، وعطف سماحة السيد على الناس.

جواب الشيخ د. علي جابر: كما يقولون. وعادة ما تكون الذاكرة مكبلة في لحظات الصدمة. نخرج منها شيئًا فشيئًا. أحيانًا نشعر بمعاناة أن أستحضر تفاصيل سنوات طويلة، يعني من المعرفة والأمور الخاصة والعامة التي كنا نعيشها مع السيد.

في الموضوع التربوي، هناك شواهد كثيرة كنا نراها ونعايشها مع سماحة السيد. هو كان مربيًا بكل حركاته. أنا لا أعتبر أن السيد كان فقط قائدًا سياسيًا. كان يناقش في التفاصيل. أنقل لكم قصة حدثت معي، إذا أردتم، هذا شاهد. كنت أتحدث أنا وإياه حول موضوع. قلت له: والله يا سيد، أنت تتحدث كثيرًا بالتفاصيل. فقال لي شيخ علي، إذا كنا جميعًا سنتحدث فقط بالاستراتيجيات، تفاصيل الحياة وشؤون الناس، من سيتحدث فيها؟ من يتابع؟ كان يعتبر أن الدخول في التفصيل لا ينفك عن الحديث بالاستراتيجية، لأنها كلها مسؤولية.

جواب د. عبد الله قصير: لدي قصة صغيرة حدثت مع أخي، كان في خدمة السيد في إيران أيام التسعينات حيث كان يقود سيارته، وكانا على الطريق، فكان السيد يرى خيمًا منصوبة لجمع التبرعات لدعم ضحايا زلزال ضرب إيران في حينها، فكان يقول لأخي عبد الرحمن عند كل خيمة إنزل وخذ من مالي وتبرع لهم، حتى تكرر الأمر ثلاث مرات. فقال له أخي مولانا يكفي هذا الحد من التبرع. فقال له السيد: لم أشعر بعد بأنني وفيت بما يجب علي. لأن القرآن يقول "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". وأنا المال لا أحبه. ثم يكمل أخي بأنه عند وصولنا إلى قم قال له السيد: انتظرني أمام الباب. وصعد السيد إلى المنزل وأحضر سجادة حرير ملفوفة ومرتبة. وقال له: هذه تأخذها الآن لأول خيمة ستجدها على الطريق وتتبرع بها. فقال له أخي: ما قصتها يا سيد؟ قال له: هذه كانت أهم شيء، أغلى شيء في حياتي، أحبها، لأن هذه السجادة هي هدية لي من الإمام الخميني (قده)، فالآن أحس أنني أعطي شيئًا مما تحبون. فالتربية عند سماحة السيد (قده) كانت تربية عملية.

جواب د. علي كريم: بمحفل الطلاب الجامعيين، هناك قصة قصيرة جدًا حدثت بالمباشر أمامنا. كنا ننظم حفل التخرج السنوي للتعبئة التربوية، برعاية السيد وحضوره. هذا نتحدث عنه قبل الألفين وستة. عدد الخريجين يومها كان بالمئات، وسماحة السيد يوزع الشهادات للإخوة. سماحة السيد واقف على المنبر. الإخوان مصطفون وقوفًا بانتظار دورهم، يعني الأخ بعيد عنه أقل من مترين، عندما يصبح دوره يصعد مباشرة عند السيد، يأخذ الشهادة ويتصور، وينزل. عندما جاء دور الأخوات. لاحظوا الاعتبار التربوي. فيقول السيد للمعنيين: تقول للأخوات القيمين عن الأخوات المشاركات بالتخرج، يبقين جالسات في مكانهن. فقط الأخت التي يخرج اسمها تأخذ شهادتها. فأخواتنا لسن للعرض. وهذا ما أخّر سماحته لمدة ساعتين ونصف فقط بسبب هذه الجزئية التي لم يتلفت لها أحد غيره.

 

مداخلة رقم 3 (الشيخ د. محمد باقر كجك): قصدت أن أداخل لأهمية الموضوع بشيء يتعلق بأنطولوجيا التربية، يعني بالبحث الفلسفي الذي فتحه سماحة الشيخ حول موضوع نظرية الإنسان الكامل وموقعيته في صناعة القدوة. حقيقة، هذا البحث ظريف جدًا في العلوم التربوية. لأنه نحن على خصوصية مفهوم القدوة في التربية، هناك نقاش وصراع في المدارس التربوية المعاصرة حول مفهوم القدوة. يعني من هو القدوة؟ ما هي القدوة؟ حدود القدوة؟ وضوابط القدوة؟ ما بين المدرسة التقدمية البراغماتية حتى الجبهة الاشتراكية، مثل باولو فريري وغيره من المنظرين، كلهم يؤمنون بضرورة وجود شيء من القدوة في عالم التربية، ولكن في ولكن هناك ميزات بنيوية في نظرتنا نحن لمسألة القدوة، بناءً على التأسيس الفلسفي الذي قدمه سماحة الشيخ، التي هي أصلًا صلب نظريتنا التربوية، فحتى نحن في المركز في الوثيقة التربوية نعتمد مبدأ ومفهوم الإنسان الكامل الموجِّه لعمليات التربية. بالخلاصة، هذه النظرية هي نظرية مهمة جدًا، لأنها مبنية على أسس مطلقة، أي لا تتغير، لا يغيرها الزمان والمكان. وهذه أهمية الفلسفة حيث أنها تؤسس بنى راسخة وحدودًا واضحة لمفهوم الإنسان الكامل، وبالتالي القدوة. وأيضًا، يعني هذا الوجه الإشكالي الآخر لمفهوم القدوة، أن المدارس المعاصرة ترفع أهمية المفاهيم كالحرية، والفردانية، التي تأسست على أسس علمانية ومادية، وبالتالي تجعل الشخصيات المبنية على هذه المفاهيم شخصيات متغيرة متقلبة. الشيء المهم فيها هو الخبرة الفردية الشخصية، يعني النموذج الشخصي الذي يعمله الإنسان لنفسه تحت هذه القيم. أما المدرسة التي نحن نؤمن بها، والتي هي تحت مفهوم الإنسان الكامل، فهي تتمتع ببنى راسخة قوية مهمة. ولذلك، طرح مفهوم دور القدوة في التربية على المقاومة، فنحن نفهمه كثيرًا. لأنه الآن الهجوم على شخصية السيد ليس على شخصه فقط، يعني نجاحي الشخصي، بل نجاح النموذج في تقديم قدوة تربوية متكاملة، وتأثيره نتيجة تطبيقه لهذه البنى القرآنية الفلسفية للإنسان الكامل، وغير ذلك من الكلام. لذلك، أرى أنه نحن نتمتع بكلامنا حول مفهوم القدوة، على جملة من المواصفات، منها أن هذا المفهوم هو مفهوم شامل، متعدي للزمان والمكان، وللدين والمذاهب والأقوام والجغرافيا. وهذا الذي يجعل الحديث عن شخصية مثل شخصية السيد (رحمة الله عليه)، حديثًا مهمًا، لأنه يصيب أيضًا المقتل عند العدو، لأنك تعيد إحياء هذا النموذج الحي الدائم، الذي لم يكن يستطيعون أن يفعلوا معه شيئًا، إلا أن يقتلوه على مستوى شخصه، ولكن القدوة لا يمكن أن تُقتَل

بالطبع، أؤكد هنا على ثلاث نقاط:

أولًا: إن وجود هذه الشخصية المتكاملة والناجحة يؤكد أن صناعة هكذا شخصية هو أمر ممكن تربويًا، وهذا ما يفتح المجال واسعًا في النقاش التربوي، حتى نستطيع استنباط الآليات والأصول والمباني لبناء هذه الشخصية القدوائية.

ثانيًا: أن لا تتقهقر العمليات التربوية بعد شهادة سماحة السيد إلى بناء شخصية منكفئة، لأنه أصلًا هذا كل خلاف ما اشتغله السيد. فيجب أنا لا نصاب بعد شهادته بضربة تربوية، بالعكس، قوتنا في أنهم حاولوا قتل القدوة، قوتنا في أن نبني القدوات مجددًا.

ثالثًا: ضرورة الاهتمام ببعدين أساسيين في شخصية السيد.

1- الالتزام السلوكي عند السيد، يعني القرآني الإيماني، الذي هو حقيقة يمثل خلاصة مدرسة الإسلام المحمدي الأصيل، ومدرسة الإمام الخميني (قده).

2- البعد العاطفي، لأنه يبدو أن السيد اكتسح القلوب بالعاطفة، وكانت العاطفة هي التي تمهد للمعرفة والمواقف والخطاب وبناء السلوك للوجدان، يعني الجانب العاطفي الوجداني.

جواب د. عبد الله قصير: كشاهد على ما تفضل به الشيخ محمد باقر. لدى الإسرائيليين هناك اثنين من كبار الضباط المتقاعدين من وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، كانوا ألفوا كتابًا حول السيد نصر الله، حول شخصيته. كانوا يريدون أن يطبعوا أو يصدروا الكتاب قبل الطوفان، لكن أجلوه والآن صدر الكتاب، قرأت أنا مختصرًا عنه للكتاب باللغة العربية. يقولون فيه: واصلين لنتيجة، يتحدثون فيه عن ميزات السيد نصر الله، وقدرته على التأثير بالجمهور، قدرته على تحويل التهديد إلى فرصة، قدرته على إقناع الجمهور والعدو بأنه هو انتصر، فيصلون في النهاية إلى أنه هناك ضرورة لإسرائيل لقتل السيد، فيدعون إلى قتل السيد نصر الله، للتخلص من هذا الرمز الذي لا نستطيع أن نواجهه، ولا نستطيع أن يعني نتعامل مع النتائج التي يستطيع أن يصنعها.

 

سؤال رقم 4 (الأخ علي شومر): دكتور عبد الله، حضرتكم في بحثكم تحدثتم عن شمولية خطاب سماحة السيد، وأنه تجاوز لبنان والمنطقة. بصراحة لم أجد أثر لخطاب سماحة السيد خاصة في موضوع التربية على المقاومة، لدى عموم الشعوب العربية، وإن كان اللهم بعض الاستثناءات بخصوص الساحة الشيعية العراقية أو الساحة السورية والفلسطينية. فهل كان الانقسام الطائفي له الأثر المعاكس مقابل هذا الخطاب، وكيف يتم معالجة هذا الأمر؟

جواب د. عبد الله قصير: بالتأكيد الصورة عندك مشوشة، وغير واضحة. أنا ذكرت في كلامي ومداخلتي شمولية الخطاب بناءً لوقائع، حيث أنني زرت مصر لأكثر من خمس مرات، وزرت تونس، الجزائر، المغرب، السودان، والخليج تقريبًا معظم دول الخليج. في كل هذه البلدان، تجد على مستوى النخب، وعلى مستوى المثقفين، بالتأكيد هناك أثر كبير جدًا للسيد. وعلى المستوى الجماهيري أيضًا. ثم جاءت الأنظمة والحكام، قمعوا هذا الأمر، وقمعوا هذه الحالة الشعبية. فأجهزة المخابرات العربية اجتمعت مع بعضها البعض، لوضع خطة لكيفية منع الحد من تأثير سماحة على الشارع العربي. في يوم من الأيام، كان الشارع العربي، مثلاً القاهرة كان تفرغ من المواطنين عندما يكون السيد يتحدث، وغيرها من كثير من العواصم العربية، فقط لأن السيد يتحدث، كثير من الناس يتابعون السيد في بيوتهم. الآن الشعوب مخنوقة. الشعوب ليست آخذة حريتها بالتعبير. لو تُترَك الحرية بالتعبير، بالتأكيد ستجد مساحات ودوائر أوسع بكثير.

النقطة التي تفضلت فيها، الموضوع الطائفي، نعم أثر. أنا أقول لك، بلا شك، معركة سوريا، ونحن هنا، أنا سمعتها من سماحة السيد، أننا مخيرون بين مشروع الدفاع عن سوريا، حتى لا تقع بيد الأمريكيين والإسرائيليين، كما وقعت الآن باليد الأمريكية الإسرائيلية، وبين أن نخسر جزءًا من جمهورنا، ليس كل جمهورنا العربي والإسلامي، اخترنا هذا الخيار، ونحن نعرف نتائجه، ولكن تأتينا فرصة ثانية نستعيد بها هذا الجمهور. وبالفعل، جاء موضوع طوفان الأقصى، لنستعيد هذا الجمهور. ونحن نتابع، عبر السوشيال ميديا، هناك استعادة كبيرة للجمهور الذي خسرناه بموضوع معركة سوريا. كثير من الجمهور الذي خسرناه بمعركة سوريا من الوسط السني، تم استعادته بموضوع طوفان الأقصى، ومساندة الأقصى، لأنه كان السيد نصر الله وحزب الله، هما الطرف الأول عربيًا الذي ناصر الطوفان، وقدم شهداء في هذا الموضوع. وبشهادة السيد زاد الموضوع أكثر فأكثر.

 

مداخلة رقم 5 (علي حيدر): لدى فكرة راودتني حول التربية بين تحكيم العقل وتغليب الروح من خلال نقل الحالة الإسلامية من الابتلاء إلى التمكين (السيد نصر الله نموذجا).

هذه تدخل بعنوان دور القائد القدوة. الآن، كل العلماء المعاصرين، يتحدثون عن تغليب الروح على الحالة المادية، والتي يسمونها الأنا المزيفة. فنحن يمكن الآن لدينا فرصة أمامنا لنتحدث عن سماحة الأمين العام، من ناحية ما هي الأوجه القيمية التي استخدمها كمعايير في بناء الروح؟ الآن، الغربيون يتحدثون عنها. وبالتالي، هذه الأوجه نقلت الحالة الإسلامية إلى مزاج فريد من نوعه، جعلت هذه الأمة تثق بهذه الشخصية العظيمة، وتثق بقراراتها. بالعقل، يمكن أصلًا نحن لا نستطيع أن نضع لها وزن. نقل الحالة الإسلامية من الابتلاء إلى التمكين، ومرة أخرى من التمكين إلى الابتلاء. هذه الأوجه يمكن جديرة أن نتحدث فيها بالتفصيل، أنه ما هي الشخصية التي كان يمتاز بها، والتي لها علاقة بالتقنيات على مستوى الروح، والتي يجب أن تعمم، وبالمناسبة الدكاترة المعاصرون، الذين لهم علاقة بإدارة الذات أو التنمية البشرية، يتحدثون فيها الآن. نحن لدينا فرصة لنرفع فيها من روحية هذا المجتمع، وإخواننا وأخواتنا، وخاصة بفقدان هذه الشخصية العظيمة.

آخر تحديث : 2025-10-27
الكلمات المفتاحية للمقال:
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape