المقاومة عند الشيعة تاريخ وهوية

نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 5 للعام 2025 وذلك عصر نهار الأربعاء بتاريخ 10-9-2025 م، تحت عنوان [المقاومة عند الشيعة تاريخ وهوية] (قدمه د. يوسف أبو خليل).
تقديم الملتقى من قبل د. يوسف قال فيه:
تتنوع الرؤى الفكرية والإيديولوجيات السياسية باختلاف مرجعياتها الفلسفية والدينية والثقافية عبر التاريخ الإنساني. فمنها ما يستند إلى عقائد دينية، ومنها ما يقوم على مبادئ قومية أو إنسانية أو اشتراكية أو ليبرالية. ورغم هذا التباين الظاهر، إلا أنه ثمة نقطة التقاء أساسية تجمع كل هذه التوجهات: الإيمان بأن الحرية والمقاومة هما الطريق الحقيقي للتحرر وبناء الكرامة الإنسانية.
والحرية ليست مطلباً أيديولوجياً فحسب، بل هي حق أصيل وغريزة فطرية تسكن كل إنسان. تختلف طرق تفسيرها وتجسيدها:
وتمثل المقاومة، بمختلف أشكالها الفكرية والسياسية والمسلحة وغير المسلحة، أدوات تصون بها الشعوب حقها في الحرية. فالمحتل أو المستبد لا يتخلى طوعاً عن سلطته، بل يُجبر على التراجع أمام إصرار الشعوب على المقاومة.
كل هذه الأشكال تصب في غاية واحدة: تحرير الإنسان والأرض والقرار.
وعن جدلية الحرية والمقاومة، فلا حرية بلا مقاومة، ولا مقاومة بلا حرية. تمثل الأولى الغاية، وتمثل الثانية الوسيلة. فحين تنبثق المقاومة من وعي الشعوب وإيمانها بحقها في الحرية، تصبح حركة جماهيرية عصية على الانكسار. وحين تتحقق الحرية، تُصان بالتجديد المستمر لفعل المقاومة ضد أي شكل جديد من الاستبداد.
فمهما اختلفت الأيديولوجيات، يظل الطريق واحداً: الحرية والمقاومة هما ركيزتا التحرر الوطني والإنساني. إنهما لغة الشعوب التي لا تعرف الاستسلام، ورسالتها التي تتوارثها الأجيال لتؤكد أن الكرامة لا تُمنح وإنما تُنتزع.
ومنذ واقعة كربلاء (61هـ/680م)، أصبح الإمام الحسين بن علي (ع) رمزاً للثورة والمقاومة ضد الظلم والطغيان. هذه الواقعة لم تُقرأ فقط كتاريخ، بل تحولت إلى منهج أخلاقي وسياسي في الوعي الشيعي.
مبدأ الرفض: شعار "هيهات منا الذلة" أصبح قاعدة لتفسير الموقف الشيعي من الأنظمة الجائرة، وجعل من ثقافة المقاومة جزءاً من الهوية الدينية الجامعة.
مبدأ تكرار التجربة: عبر التاريخ الإسلامي، كثير من الحركات الشيعية (كالزيدية في اليمن، أو ثورات التوابين والمختار الثقفي) استلهمت مشروعها من كربلاء.
أم عن التربية على المقاومة والثقافة العاشورائية، فعاشوراء ليست حدثاً تاريخياً فقط، بل بوصلة ثقافية/سياسية أعادت إنتاج نفسها عبر القرون في كل مواجهة ضد الظلم والاحتلال.
وفي البعد الثقافي، أصبحت المجالس الحسينية واللطميات ليست فقط شعائر عاطفية، بل كانت دائماً أدوات تربوية وغرساً لقيم التحرر من مختلف أنواع الظلم.
وفي البعد السياسي، ومع مرور الزمن، خاصة في العصر الحديث، تحولت الثقافة العاشورائية إلى محرك سياسي للمقاومة ضد الاستعمار والاحتلال:
في ثورة العشرين في العراق (1920)، كانت الشعارات الحسينية مركزية في تعبئة الناس ضد الاحتلال البريطاني.
في الثورة الإسلامية في إيران (1979)، ربط الإمام الخميني بين كربلاء ومقاومة الشاه.
في لبنان، استلهمت المقاومة الإسلامية (حزب الله) خطاب عاشوراء لتأطير مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
في التضحية والفداء: يُعد الحسين وأهل بيته وأصحابه قدوة في تقديم النفس دفاعاً عن القيم.
في الوعي والنهضة: رسخت خطب الحسين وزينب عليهما السلام مفهوم الوعي بضرورة رفض الظلم.
وكربلاء أظهرت تلاحم الجماعة الصغيرة حول قضية كبرى، وهذا نموذج للمجتمعات المقاومة.
ورغم الهزيمة العسكرية، أصبح الحسين "منتصر الدم على السيف"، مما يزرع روح التفاؤل في المدى البعيد.
وكثير من المفكرين يرون أن العزاء الحسيني ليس مجرد شعائر دينية بل أداة لإعادة إنتاج خطاب المقاومة والهوية.
فالمقاومة عند الشيعة لم تكن مجرد موقف سياسي عابر، بل بنيت على ذاكرة عاشوراء التي أعطتها الشرعية وجعلتها مدرسة مستمرة عبر التاريخ.
فالثقافة العاشورائية تمثل مدرسة متكاملة في التربية على المقاومة، من خلال ترسيخ قيم العزة، التضحية، والوعي، وتحويل الشعائر إلى أدوات تربوية فعّالة تُنشئ أجيالاً قادرة على مواجهة التحديات والتمسك بالهوية والحرية.
المداخلة رقم 1: (د. غسان طه / لبنان)
بدأ الدكتور طه كلامه من خلال:
ما بين مقدمة الدكتور يوسف والمداخلة التي سأقدم بها يوجد فارق، فالدكتور يوسف في مقدمته صنع جدلية بين المقاومة والتحرر، وبطبيعة الحال هناك علاقة جدلية بين عملية أو فعل التحرر والتحرير وبين المقاومة من جهة، والليبرالية والرأسمالية التي هي منتج ليبرالي رأسمالي غربي من جهة أخرى.
وما أود أن أتحدث عنه هو تاريخ الوجود الشيعي في لبنان. وعندما نتعرض لتاريخ الوجود الشيعي في لبنان، فهو تاريخ من المقاومة وهو تاريخ من التحديات والصمود والدفاع. لا أشير إلى المقاومة بمعناها أو بوضعها الحاضر، لأن غالبيتكم معاصرون للمقاومة ويعرفون أكثر مني بمدخلاتها وتأسيسها ومنطلقاتها الفكرية والأيديولوجية، ولكن سوف أتحدث عن الوجود الشيعي والتحديات التي عاصرت هذا الوجود منذ فجر التاريخ.
فالوجود الشيعي في لبنان تأسس على عدة أمور منها أنه وجود قبل الإسلام، فقبل أن يدخل فتح الإسلام إلى لبنان، كان هناك وجود عربي في لبنان، حتى لا نقول إن لبنان فينيقي أو غير فينيقي. فلبنان وبلاد الشام كانتا موقعًا للهجرات من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام لكونها أكثر خصبًا، وأيضًا بسبب التناقضات القبلية في العالم العربي في الجزيرة العربية، وعمليات الثأر القبلي التي كانت تدفع القبائل إلى الهجرة إلى بلاد الشام، ومنها قبائل عدة، وبين هذه القبائل التي غادرت واستوطنت في بلاد الشام كانت قبيلة عاملة في جبل عامل، على إثر انهيار سد مأرب في اليمن. ويشير المؤرخ محمد كرد علي إلى أن الوجود الشيعي في بلاد الشام يعود إلى القرن الأول، أي أن الشيعة موجودون منذ القرن الأول في بلاد الشام، وليسوا طارئين على هذه البلاد ولسنا حديثي الوجود حتى يُقال لنا ارجعوا إلى مكان آخر. وأيضًا هذا الوجود هو في جبل عامل وفي بعلبك والهرمل، وأيضًا هو في جبل لبنان، فجبل لبنان كان يغلب عليه التشيع حتى القرن الرابع عشر. ففي العام 1305 ميلادي، ومع آخر الحروب الكسروانية، بدأ النزوح والهجرة والتسنن في لبنان والتحول إلى المسيحية من قبل كثير من العائلات اللبنانية بعد دفاع مستميت في مناطقهم الشيعية. إذاً تاريخ المقاومة في لبنان هو تاريخ البدايات حيث تعرض الوجود الشيعي للتهديد.
وكان لدينا عصر أموي حيث كان التشيع موجودًا في لبنان في جبل عامل وفي بعلبك، فالجيوش التي دخلت مع الفتح الإسلامي كان فيها من أصحاب الإمام علي عليه السلام، حيث كان منهم حرفوش الخزاعي الذي هو من قبيلة خزاعة التي حكمت بعلبك الهرمل 400 سنة فيما بعد. وأيضًا هذا الوجود بقي كامنًا، لأنه مع وجود السلطة الأموية في بلاد الشام لم يستطع هذا الوجود الشيعي أن ينتشر نتيجة للضخ الأيديولوجي الأموي في هذه المنطقة.
أما في العصر العباسي، فنشط التشيع في لبنان، والسبب ازدهار الحركة الفكرية في بغداد، وأئمتنا والكتب الأساسية ازدهرت في هذا العصر وانتقلت عبر التجار وعبر العلماء إلى لبنان، فنشط التشيع.
وأيضًا إلى جانب العصر العباسي، كان هناك العصر الفاطمي. في الدولة الفاطمية التي امتدت من المغرب حتى مصر وبلاد الشام، على الرغم من أن الدولة الفاطمية كانت إسماعيلية، إلا أنه كان هناك نوع من التصاهر مع الشيعة. فالفاطميون هم من أدخلوا "حي على خير العمل" في الآذان في مصر، وهم من أدخلوا عاشوراء بطريقتها الاحتفالية في الشوارع والمحلات في مصر.
لكن ابتداءً من هذا العصر بدأت تداعيات الوجود الشيعي أولًا في زمن الأيوبيين والدولة العباسية والدولة المملوكية والعثمانيين، حيث لم يكن ثمة اعتراف بالمذهب الشيعي بل كان هناك اعتراف فقط بالمذاهب الأربعة. وبالتالي لم يكن هناك إمكانية لممارسة الأحوال الشخصية والقضاء، ولم تكن هناك إمكانية لممارسة الفتوى وفتح المدارس الدينية بسبب هذا القمع الذي كان موجودًا للشيعة، ولا يزالون يعملون ولكن بالخفاء وبمظاهر من التحدي.
بالانتقال إلى العهد الصليبي كان الشيعة لا يزالون موجودين في مدينة صور، فكانت بلدة شيعية. صحيح أن الحكم فيها كان لقادة ابن أبي عقيل وهو سني، ولكن مظهر الحكم هو للشيعة، لأن كل البلد كانت شيعية. مدينة طرابلس أيضًا كانت مدينة شيعية، ودولة بني عمار امتدت من اللاذقية حتى جبيل حتى تخوم بيروت. فعند مهاجمة الصليبيين، لدينا فكرة بأن الأيوبيين هم من دافعوا لوحدهم، ولكن هذا غير صحيح، فقد كانت هناك مقاومة شيعية وقاتلت حوالي أكثر من 10 سنوات في الحروب الصليبية. فدولة بني عمار في طرابلس قاتلت الاحتلال الصليبي حتى لم يعد لديها القدرة، عندها طلبت العون من الوالي السلجوقي في دمشق ولم يستطع مساعدتها، وأيضًا الأسطول الفاطمي لم يستطع مساعدتها، وبقيت تقاوم لوحدها حتى دخل الصليبيون وتشتت الشيعة من طرابلس، وتم حرق مليون كتاب فكري للشيعة من مكتبة العلم. فالسؤال هو: أين ذهب هؤلاء الشيعة بعد احتلال طرابلس؟ ذهبوا إلى الجبال، أي إلى كسروان وجبل لبنان، وهذه المناطق كانت مأهولة ببعض الشيعة، ولكن هذا الوجود انتهى مع مغادرة الشيعة معظمهم إلى بيروت وتسننهم، فسُمّوا الشيعة المتسننين. وأيضًا الحال نفسه عند احتلال مدينة صور، فتوجه الشيعة إلى جبل عامل، لكن قرى جبل عامل كانت عامرة بالشيعة أصلًا، ولكن زاد عددهم مع توجه أهل صور الشيعة إليها. أما التي بقيت عصية على الاحتلال الصليبي وقاومت فهي جزين، حيث بقي فيها علماء الشيعة حتى في العصر الصليبي.
ولكن عندما وصلنا إلى العصر المملوكي أيام الظاهر بيبرس، فقد تشدد في النص، فبنظره من كان على غير المذاهب الأربعة فهو باطل. فمن كان يعلن أنه شيعي كان يتعرض للقتل، وهذا ما حصل خلال الحروب الكسروانية في فترة دولة المماليك بعد أن أطاحوا بالصليبيين. فالمشكلة عند المماليك أنهم أرادوا أن يوصلوا منطقة الشام بالساحل، لأن الساحل كان يتعرض لهجمات، وبالتالي اعتدوا على الشيعة الموجودين في جبيل وكسروان، فكانت هذه المناطق مأهولة بالشيعة، أي مملوءة بالشيعة. اليوم عندما نقرأ عند المؤرخين الدروز، يقولون بأن الدروز هم من تعرضوا للحملات المملوكية في كسروان، وعندما نقرأ للمؤرخين الموارنة، يقولون بأن الموارنة هم من تعرضوا للحملات المملوكية في كسروان، ولكن الحقيقة هي أن الشيعة هم من قاوموا وهم من دافعوا وهم من حاربوا المماليك بعد تبرير قتلهم بناءً على فتوى ابن تيمية، حيث يقول ويدعي بأن عقائد الشيعة باطلة، حيث يقول بأنهم يؤمنون بالمهدي ويزعمون أن عمره خمس سنوات وغاب في سرداب. فتم قتال الشيعة بناءً على هذه الفتوى الباطلة في الحملة الكسروانية في العام 1305 ميلادي، والتي على أساسها هُزم المتاولة من خلال خمسين ألف جندي مملوكي، وذلك بعد حملتين فاشلتين قبل هذه الحملة. فكل أربع سنوات كان هناك حملة ضد الشيعة. فأين ذهب هؤلاء الشيعة؟ أعطوهم صكًّا بأن من يذهب إلى بلاد بعلبك فهو سالم، ومن يذهب إلى بلاد جبل عامل فهو سالم، ولكن عليهم ترك كسروان، ومعظمهم التحقوا بجزين، وتم وضع عائلات عسافيه وتركمانية في كسروان مكانهم، وطلب المماليك من الموارنة مساعدتهم بالحكم والزراعة، وعندها نزل الموارنة من منطقة بشري ومنطقة أعلى الشمال في جبل لبنان واستوطنوا في كسروان.
أيضًا في الزمن المملوكي أيام الشهيد الأول، حاول أن يصنع حركة سياسية شيعية دينية، ولكنه لم ينجح نتيجة للظروف القاتلة آنذاك، حيث كان هناك عدد من الشيعة المتسننين بالساحل، وهو يصفهم بالمتسننين، وأيضًا كان هناك عدد من الشيعة الإسماعيليين والعلويين، وهو أراد تنزيه العقائد، واصطدم أيضًا بمحمد اليلوشي، الذي كانت لديه أفكار تتعلق بالسحر والشعوذة وغير ذلك. وهنا انتبه المماليك لنشاط الشهيد الأول، فأحضروه إلى دمشق، وأحضروا فقهاء لأربع مذاهب، وشهدوا عليه بأنه شيعي، فتم قتله وحرقه وذَرّ رماده في الهواء. فإذًا العصر المملوكي كان ضاغطًا جدًا ولم يتسنّى للمقاومة الشيعية إلا أن تكون بهذه الطريقة في فترة المماليك.
بعد المماليك جاء الأتراك عبر السلطان سليم الأول، والذي واجه الشيعة في مرج دابق، وقال: "أنا مسلح بفتوى دينية من شيخ الإسلام"، والتي عرضها المؤرخ سعدون حمادة. ولكن أيضًا في أيام العثمانيين، حكم الشيعة جبل عامل من خلال الشيخ نصيف النصار، وأيضًا حكموا من خلال آل الحرفوش والأحمديين الذين عادوا إلى جبل لبنان وحكموا لمدة 200 سنة أيام العثمانيين، حيث كانوا يضبطون الأمن ويقومون بجبي الضرائب، وأسسوا حركة مقاومة وأقاموا الحكم في جبل لبنان، هذا الحكم الذي امتد من شمال جبل لبنان، منطقة جبيل والكورة والبترون، وصولًا إلى منطقة عكار.
وأيضًا على الرغم من وجود مشايخ للحكم في جبل عامل، إلا أنه كان هناك العديد من المنغصات، فلم يكن هناك اعتراف بالمذهب الشيعي، ولم يكن مسموحًا لهم إنشاء المدارس، حتى أول حسينية تم إنشاؤها في العام 1908م في جبل عامل. فقد انتبه العثماني أنه في الأناضول هناك 60% من العلويين، وعلى تخوم الدولة العثمانية كانت الدولة الصفوية، فكان العثماني يخشى أن تمتد الدولة الصفوية باتجاه العراق وباتجاه بلاد الشام، خاصة أن الأمير يونس الحرفوشي قام بوصل حمص بعلبك مع البقاع الغربي وجبل عامل وصفد، فانتبه الأتراك لهذا المد الشيعي وحركوا للأمير يونس، الأمير فخر الدين. فاصطدم الشيعة بالأمير فخر الدين الذي احتل بعلبك وجزين وأفرغها من الشيعة وأسكن فيها دروزًا ومارونيين، وكانت هذه حركة من حركات المقاومة الشيعية.
وصلنا الآن إلى مرحلة الانتداب الفرنسي، حيث ظهرت حركة المقاومة الشيعية. حيث كان الشيعة أمام مشروعين: مشروع لبنان ومشروع عروبي. المشروع اللبناني أيدته فئة من الشيعة، والمشروع العروبي أيضًا لقي دعمًا من فئة أخرى من الشيعة. هذا المشروع العروبي نهضت على أساسه المقاومة بعد مؤتمر وادي الحجير، من خلال السيد عبد الحسين شرف الدين وأدهم خنجر وصادق حمزة وغيرهم. لكن هذه المقاومة لم تستطع أن تترجم نفسها بمشروع بين عامي 1919م وعام 1920م، إذ لم تستطع المقاومة إجراء التحام بين المناطق الشيعية. حيث استطاع الفرنسي أن يقطع أوصال المقاومة، واستطاع أن يغلق حدود سورية التي كان يتم من خلالها مد الشيعة بالسلاح في بعلبك وجبل عامل. ومعه بدأ المشروع الصهيوني بالبروز نتيجة وعد بلفور عام 1917م، وهذا ما جعل الشيعة جميعهم على موقف واحد مقاوم حتى يومنا هذا.
هذا هو تاريخ المقاومة وتاريخ الشيعة المقاومين، حيث حاولوا الدخول في كنف الدول الإسلامية، لكن الدول الإسلامية لم تسمح لهم بهذا الأمر. كما حاولوا الدخول في كنف الدولة اللبنانية، لكن أيضًا الدولة اللبنانية لم تسمح لهم بهذا الأمر. فهذه هي نبذة عن تاريخ الشيعة المقاومين في لبنان.
المداخلة رقم 2: (الشيخ مالك وهبي/ لبنان)
بدأ الشيخ وهبي كلامه من خلال الآتي:
أولاً، الإمام الخميني قدس الله سره كان يركز دائمًا على موضوع النبوة والإمامة، خلافًا لما يجري على الأرض، وذلك من خلال تركيزه على الحقيقة المحمدية. ونحن نقوم بتضييع الحقيقة المحمدية بالنظر إلى تفريعاتها. فمن المعروف أن التشيع ينظر إلى أهل بيت العصمة ابتداءً من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف على أنهم شخصية واحدة، وإن تكررت ظهورها في أشخاص متعددين. فروح الشخصية واحدة، وبالتالي فإن الحقيقة العليا السامية هي الحقيقة المحمدية، والباقي كلهم مظاهر لهذه الحقيقة، وليست حقائق مستقلة منفصلة عنها. وبالتالي، فليس من المقبول لي كشيعي أن أنظر إلى الإمام علي عليه السلام دون أن أرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا رأينا الأئمة ولا نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهناك مشكلة عقائدية لدينا. ولهذا، يجب أن يكون حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجداننا وفي حياتنا كبيرًا ولا مثيل له، لأنهم حقيقة واحدة، ولهذا يجب أن يكون وجوده معمقًا أكثر مما هو موجود في الواقع داخل وجداننا.
ثانيًا، في تأثير الثقافة العاشورائية في التربية على المقاومة.
عندما بدأ إحياء عاشوراء في الزمن الأول، ابتدأ في أيام الإمام الباقر عليه السلام والأئمة السابقين، فالإمام الباقر هو من بدأ يدعو لإقامة المجالس الحسينية، وكان يبذل الأموال في هذا المجال، حيث كانت تقام مجالس عاشوراء بمنى، وذلك للتذكير بمصاب الإمام الحسين عليه السلام في هذه التجمعات الكبيرة. وهذا التركيز في رواياتنا بشأن عاشوراء ليس للتقليل من شأن إحياء المناسبات الأخرى، ولكن كان هناك هدف لم يقولوا الأئمة عليهم السلام ما هو، فتركوا الأمور تؤثر طبيعيًا في الناس دون أن يوضحوا هذا الهدف.
حوربت هذه الظاهرة، وهي إحياء المراسم العاشورائية، فكان المشهد معروفًا في الزمن العباسي والزمن الأموي حيث كانوا يمنعون من زيارة الإمام الحسين عليه السلام. فكان أئمتنا يربطون زيارة الأئمة بزيارة الإمام الحسين عليه السلام، فمن لم يكن يستطيع أن يزور الإمام الحسين عليه السلام يقوم بزيارة الإمام الرضا عليه السلام أو غيره من الأئمة عليهم السلام، فكلهم من حقيقة واحدة. فمن زار إمامًا كأنه زارهم جميعًا، ولهذا تستحب الزيارة الجامعة في كل مقام من مقامات الأئمة عليهم السلام. فكل هذه كانت توجيهات لربط الناس بالإمام الحسين عليه السلام. فكلهم من حقيقة واحدة كما أسلفنا، فلو بقي الإمام الحسن عليه السلام لزمن هذا الحدث لكان هو صاحب الثورة، ولو كان الإمام الحسين عليه السلام مكان الإمام الحسن عليه السلام لقام بنفس ما قام به الإمام الحسن عليه السلام. ولو وصلت النوبة للإمام زين العابدين عليه السلام وما حصل في زمن الإمام الحسين عليه السلام، لكان الإمام زين العابدين عليه السلام هو صاحب الثورة وصانع كربلاء. فكلهم من حقيقة واحدة، وكل الأئمة بنفس الظرف الذي يتواجدون فيه يتخذون نفس الموقف.
وهذه الموقعية التي أراد الله تعالى أن يعطيها للإمام الحسين عليه السلام كانت من خلال كربلاء، فالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنة، إمامان قاما أو قعدا. فالإمام الحسن عليه السلام تحمل عبء التغير التاريخي الذي حصل من حرب معاوية إلى مصالحته، والذي لو بقي الإمام علي عليه السلام حيًاً لهو الذي تولاه، ولكن لم يرد الله تعالى للإمام علي عليه السلام أن يكون في هذا الموقف فتحمله الإمام الحسن عليه السلام. وبالتالي فالإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام هما بمنزلة واحدة عند الله تعالى، وهذا التساوي بالمنزلة يفيد أنه هناك تساوي بالعمل في الدنيا.
أنا وصلت بتفكيري لفكره جريئة بأنه لو لم يأتِ الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء لم يستطع أن يصل لمقام الإمام الحسن عليه السلام، فمعروف عندنا في الروايات أن الإمام الحسين عليه السلام رأى في منامه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال له: "إن لك منزلة هي منزلة الإمام الحسن عليه السلام". وبالتالي فالإمام الحسن عليه السلام قام بأعمال توازي في عظمتها ما قام به الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ورغم كل هذا وللأسف لم نرَ أعمالاً تعرض أعمال الإمام الحسن عليه السلام كما تعرض شخصية الإمام الحسين عليه السلام في مجتمعنا.
كربلاء التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام كانت لظرف وكان لها هدف وهو حفظ الإسلام، وهذا الهدف تحقق من خلال حفظ الإسلام من إفراغه من قيمه الحقيقية وتعبئته بقيم أخرى لا تمت له بصلة، وإن بقيت العناوين واحدة مثل الصلاة والصوم وغيرها، ولكنهم أرادوا أن يلغوا كل المحرمات ويبدلونها ويغيروا كل القيم ويبقى الإسلام فقط بالاسم. ولهذا لدي نتيجة معينة بأن السفياني هو صاحب نفس المشروع، فالسفياني هو مشروع وليس فقط اسماً، فهو من يتبنى المشروع اليزيدي. وبالتالي كربلاء كان لها حضورها الأول ويراد لها أن تتكرر لكن بطريقة معاكسة في الزمن الآخر.
كربلاء بحضورها حققت هدفها وأصبحت الشخصية الكربلائية نموذجًاً يقتدى به، حتى إذا طُولب أي إمام عليه السلام بالتحرك كان يسأل: هل لديكم مثل أهل كربلاء بالمقدار النوعي والعددي كي يحصل تغيير على الأرض؟ فكربلاء لم تكن تهدف إلى حصول تغيير على الأرض بل كانت تهدف إلى حفظ الدين، لكن أي حركة يراد منها أن تهدف لتغيير على الأرض بقيادة الأئمة عليهم السلام كانت بحاجة لأشخاص مثل كربلاء، ولهذا فعندما نقول إن الإمام عليه السلام ينتظر أنصاره، هذا يعني أنه ينتظر أشباهاً أهل كربلاء، ولهذا فهذا الإحياء المستمر الذي بدأ من الأئمة عليهم السلام له أثر تلقائي في صناعة الشخصية الكربلائية إذا أحسن الاستفادة منها. للأسف التاريخ الشيعي لم يكن دائماً يحسن التعامل مع المجالس الحسينية، حيث كان يتعاطى معها أحياناً كانها شعائر فقط دون أن تنعكس قيمها الحقيقية في شخصية الإنسان المسلم الشيعي.
مع بداية الثورة الإسلامية في إيران، بدأ الربط الحقيقي والعميق بين كربلاء وما يحدث في أرض الواقع المعاصر، وذلك من خلال توجيه مباشر من الإمام الخميني (قدس الله سره) لقرّاء العزاء. فمن كان يتأثر بكربلاء عفويًاً، أو من كان بناءً على التوجيهات، أصبح طموح كل شخص منهم، امرأة ورجل، أن يكون شخصية كربلائية. وهذا ما أثّر على المدى الطويل بتجذّر الشخصية العاشورائية في كل الناس، ولدى كل أفراد المجتمع. فحتى الإنسان قد يقع بأخطاء في حياته، ولكن نشعر بأن هذه الشخصية العاشورائية هي أصبحت متجذرة فيه، ولا يقبل تغييرها. وهذا كان هدفًاً من أهداف إحياء المراسم العاشورائية، عبر إيجاد هذه الشخصيات وتكوين تحصين للمجتمع، وعندها تبدأ بشائر الخير، وعندها انتصرت الثورة الإسلامية في إيران.
فما الذي جعل الثورة الإسلامية في إيران تنتصر، حيث أنه بكل المعايير لا يجب أن تنتصر، خاصة المعايير المادية؟ الذي جعل الثورة تنتصر، والذي جعل الناس تتحرك وتصمد في وجه الشاه، هي الشخصية الكربلائية، رغم أنه كان يقوم بقصفهم بالطائرات خلال المظاهرات، وكان يقوم بكل الأساليب الوحشية ضد الثورة.
لو نظرنا كيف قامت الثورة، كان الناس يقومون بإحياء مناسبة ذكرى شهادة السيد مصطفى، فعندها خاف الشاه من الناس، وبدأ يمنع ويقوم بضرب الناس وقصفهم، وبدأت الناس تستشهد، وأصبحت أعدادهم تزداد في مجالس العزاء. وأصبحت هذه الأعداد تكبر وتكبر، فالشاه هو من عملها ثورة ضده، بناءً على الشخصية الكربلائية المتجذرة في الناس. فالله تعالى سخّره ليحول هذه المظاهر الاحتجاجية على الشاه، ومظاهر إحياء المناسبات العاشورائية، انطلاقاً من الشخصية الكربلائية التي لا تنكسر، فهي شخصية صلبة وصبورة، ولا تهاب الموت في طريق الحق، ولهذا فكل العمل اليوم غربيًاً هو على كسر هذه الشخصيات الصلبة المقاومة، ولهذا فهناك تركيز اليوم ليس على احتلالنا، ولكن على محاولة فصل التشيع عن كربلاء وعن عاشوراء، ومن خلال فصل شخصيتنا عن الشخصية الكربلائية.
كربلاء وجدت لهدف، وهدفها تحقق بشكل دائم ومؤبد، وهو صناعة الشخصية الكربلائية، وهذه الشخصية إذا وجدت لا يمكن أن تنكسر، وبالتالي يصبح من الصعب أن ينكسر المجتمع، وليس فقط الفرد. فالعلاقة بين الثقافة العاشورائية والمقاومة هي شيء محسوس، ونراه في أرض الواقع في زماننا الحالي، فنحن لولا عاشوراء وكربلاء لم نثبت ونصبر منذ العام 1982م وما قبله، على كل هذا الظلم، وعلى كل هذا الاحتلال، وعلى كل هذه الغطرسة. فجميع شعارات السيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله (رحمهما الله) كانت تنطلق من عاشوراء ومن الشخصية الكربلائية. فهذا الامتداد الكربلائي على مدى كل هذه المجتمعات هو الذي ساهم في تأسيس الشخصية المقاومة وانتصاراتها المتلاحقة.
أريد أن أستعرض أيضاً فكرة بأنه قد ولى زمن الهزائم، هذه الفكرة لم نتراجع عنها، لكي نكون واضحين، لأن هذا المشروع الذي نحن فيه هو مشروع إلهي، فنحن خدم في هذا المشروع الإلهي، وهذا المشروع بدأ في الظهور بانتصار الثورة الإسلامية في إيران. فخلال 10 سنوات من بعد الثورة، تعرضت إيران لمصائب وخضات، كان كل واحد منها كفيلاً بانهيار الدولة والثورة، كحركة منافقي خلق المسلحة وغيرهم. وهجوم صدام على إيران المدعوم غربياً، ولكن لماذا لم يصل صدام إلى طهران؟ ليس السلاح، ولكن الشخصية الكربلائية التي واجهت كل هذا الهجوم الشرس هي السبب في هذا الصمود. ففي أول سنتين من الحرب، لم يكن يملك الشعب الإيراني أي قدرة سلاح عسكري وازن لمواجهة الهجوم الصدامي. وهذه الشخصية الكربلائية هي التي أسست للحرس الثوري لاحقاً، وهذه الشخصية هي التي بارك الله بها وأعطاها النصر في إيران، وأيضاً ببركتها أبقى النصر في إيران، وهذه الشعلة وهذه الشخصية ما دامت موجودة لا يمكن أن تنهزم ولا يمكن أن تتراجع.
في بلدنا لبنان، على سبيل المثال، الحرب لم تنته بعد. صح أنه هناك انتكاسات في مكان ما، ولكن إرادتنا لم تنكسر، وإسرائيل لم تنتصر. فالنصر كما يسميه القرآن الكريم، هو النصر العزيز، أي النصر المهيمن، أي انتهاء الطرف الآخر، وإلى الآن الكيان الإسرائيلي لم يحقق هذا النصر، فلا تزال انتصاراته موضعية. فمشروعنا هو مشروع إلهي، هو مشروع سيادة الدين كما يجب أن يكون، من خلال الرحمة والعدل، وهو دين الإسلام المحمدي الأصيل، وهذا المشروع يمثل الكعبة التي قال عنها عبد المطلب: "إذا لم أكن قادراً على حمايتها، فللكعبة رب يحميها". فهذا المشروع وصل لمرحلة كي يبقى، لأن الشخصيات الموجودة فيه هي شخصيات ناضجة كربلائية صابرة قادرة. فهذه الشخصيات التي ظهرت ليس على صعيد أفراد فقط، بل على صعيد مجتمعات في إيران والعراق ولبنان واليمن وغيرها، بحيث أنه إذا أراد الله تعالى أن يستبدلها، كما يتوهم بعض الناس، فهذا يعني أنه علينا أن ننتظر ما يقارب الألفي سنة كي يأتي أشخاص لديهم مثل هذه الشخصية الكربلائية. فنحن قوم نستحق النصر، كمجتمع كربلائي مقاوم، وهذا وعد مؤكد، وهذه الراية سيستلمها صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف). فهذا المشروع هو مشروع واحد إلهي، ونحن خدام لهذا المشروع الإلهي. فنحن كأفراد إذا أدينا تكليفنا في هذا المشروع، نكون قد ربحنا، فنحن على كل الأحوال منتصرين، حتى الشهادة هي نصر بالنسبة لنا في الدنيا والآخرة في هذا المشروع الإلهي العظيم.
تعليقات