دراسات ومقالات المركز
معالجة الخوف في مرحلة ما بعد الحروب عند الأطفال
معالجة الخوف في مرحلة ما بعد الحروب عند الأطفال
د. محمد باقر كجك[1]
تترك الحربُ أثاراً ورواسب نفسية متنوعة في البنية النفسية والعاطفية للأطفال، خصوصاً أنّهم قد يخضعون لتجارب مباشرة في الحرب كـ تعرضهم للقصف والتهجير والجرح والخوف والهلع ، أو رؤية مشاهد القتل والتدمير والجرحى والتهجير والنزوح. وفيما يكون التدخل التربوي والدعم النفسي داخل الحرب مسألة ضرورية، إلا أنها بعد الحرب يشتد الاحتياج إليها بسبب سعي المجتمع والعائلات للعودة إلى المسار الطبيعي للحياة ما قبل الحرب، على أقل تقدير.
يشكّل الخوف أحد الغرائز الإنسانية الهامّة، والتي تستبطن حالة عقلانية أوليّة يتمرس الفرد على استعمالها في ظروف متنوعة كمواجهة الخطر، أو الاحتياجات القصوى، او احتمالات الضرر، ومحاولات سد النقص في مظاهره المختلفة في الحياة الإنسانية. ولكن، وبسبب ظروف حادة كحالة الحرب، تزداد عوامل التحفّز والحذر عند الإنسان بسبب كثرة وشدة المخاطر التي قد يتعرّض إليها، وفيما قد ينجح البالغ في التعامل معها، والوقوف عند حدٍّ معقول من تحفيز الجهاز النفسي في مجال الخوف، إلا أنَّ تعقيد هذه القضية (أي التعامل مع الخطر ومستوى الخوف العقلاني المطلوب) عند الأطفال والصعوبة التي قد يواجهونها في عقلنة الحرب، وإدراك منطق المخاطرة والتحديات فيها، وعدم وجود تجارب سابقة أو مدركات قبلية خاصة بالحرب وأجوائها، تجعل من احتمال وقوع الأطفال في آثار الخوف الزائد ، احتمالاً جديا.
وفيما يلي بعض المعالجات المقترحة والضرورية للتعامل مع الأطفال:
- أولاً: احترام الخوف عند الطفل وتقديره، يخطئ بعض الآباء والأمهات، في الاستخفاف بخوف الأطفال بعد الحرب، من قبيل الخوف الذي يبديه الأطفال من البقاء وحيدين في الغرفة، أو من أصوات الطائرات، أو حالات الرهاب التي تعتريهم عند رؤية مشاهد قاسية على التلفاز، او عند استماعهم لمصطلحات مرتبطة بالحرب..الخ. وقد يقوم بعض الأهل بالتأنيب والتوبيخ أو الحط من مكانة الطفل بين أقرانه، أو عقابه على ذلك. إن المعالجة المطلوبة هنا، تبدأ من إبداء التفهم الكامل والاحتضان العاطفي المعتدل والمستمر للطفل، عندما تنتابه هذه الحالة، وإشعاره بأنه ليس وحيداً في هذه المعاناة، وأنّ الجهة التي يلجأ إليها للتعبير عن خوفه، هي جهة دائمة الحضور في حالاته هذه، وبالتالي يمكن له أن يشعر ببعض الأمن في التعبير عن خوفه. إن هذا الاحتضان يبدي للطفل عن احترام والديه له ولمشاعره، وتقديرهما لتجربته الخاصة، ولمراحل تكوين شخصيته وأفكاره عن الحياة. وكذلك، هي خطوة مطلوبة في مجال خلق بيئة للحوار والنقاش الهادئ وتبادل الأفكار، دون أن يقع الطّفلُ في خوف مزدوج من الحرب ومن ردود فعل الأهل.
- ثانياً: الحوار والتفاهم مع الطفل، في الخطوة الثانية، يقدم الأهل على إنشاء بيئة حوارية آمنةٍ مع الطفل، يهدف فيها الأهل إلى معرفة مخاوف الطفل، حيث إنَّ الحروب تضجُّ بالأسباب الموجبة للخوف والمثيرة للاضطراب. وقد تكون مظاهر الخوف متعددة واسبابها متعددة أو واحدة. وكذلك، من المهم معرفة وتشخيص ردود أفعال الطفل التي ترتبط بمخاوف الحرب، كالتبول اللاإرادي، أو الخوف الشديد من الظلام، أو "عقدة الطائرة"، أو البكاء الشديد لأدنى سبب، أو التعلق الزائد بأحد الوالدين، او الخوف من وقوع المنزل وتهدمه، أو توارد الأفكار حول العودة إلى الحروب، أو الخوف الشديد من الموت..إلخ من الأسباب الموجبة لظهور الخوف وآثاره عند الأطفال. حينما يصل الوالدان إلى تحديد أحد هذه الأسباب، حينها يمكن لهما إنشاء قواعد حوارٍ واضحة مع الطفل، تقوم في مجملها على هذين الأساسين: الأول، الواقعية، بحيث يتفاهمان مع الطفل (بحسب مرحلته العمرية بالتأكيد) على أنّ خوفه هو فعلاً أمرٌ يمكنُ فهمه وتقبّله وتعقّله، ثم يتحاوران حول أسسه وزمان نشوئه -–ي الحرب- وأن أسبابه لم تعد حاضرةً أو مستمرةً بنفس القوة التي كانت زمن الحرب، وبالتالي فإنَّ وجود الخطر الذي كان حين الحرب قد تراجع بشكل كبير أو انتفى كلياً. والأساس الثاني، هو التدرج، حيثُ إنّ عملية التفهيم والاقناع، هي مسألة قد تأخذ وقتاً، لضرورة تكرار المعلومات، والتدرج في البناء المنطقي والعقلاني لموضوع إزالة الخوف بتبيين زوال أسبابه، لذلك على الوالدين التحلي بالصبر الكافي في عملية الحوار، وكذلك في الإجراءات العملية المواكبة له، من قبيل الصبر على التبول اللاإرادي، أو نوبات الغضب أو البكاء المتكررة، أو الخوف من النوم وحيداً في الغرفة...إلخ.
- ثالثاً: النشاطات البديلة، إذ تشكّل النشاطات المكمّلة للخطوتين السابقتين، مساراً ضرورياً في تكميل عملية رفع أسباب الخوف ومظاهره، في إيجاد فضاءٍ تربوي وتنموي جديد للأطفال. إن الأنشطة المتنوعة، المدروس أهدافها وغاياتها وطبيعتها (حيث من الممكن الاستفادة من الخبراء التربويين والنفسيين، والارشادات العملية التي تقدمها بعض الجهات الموثوقة..) من شأنها رفع القابليات المعرفية والمنطقية للأطفال وهو أمرٌ مؤثِّرٌ جداً في تعديل الرؤية المعرفية للطفل اتجاه العالم من حوله وإدراكه أن هناك إمكانية واقعية لإيجاد فضاء آمنٍ (فالخوف إذن ليس مطلقاً في المكان والزمان)، وكذلك في إدخاله في تجارب اجتماعية جديدة مع العديد من الأطفال الذين هم في مثل سنّه والذين قد مروا ربما في مثل ما مروا به (طبعا تحت إشراف الأهل أو الراشدين المختصين) بحيث يدرك الطفل أن هناك من أقرانه من تجاوز الحرب بتجاربه الخاصة الشبيهة دون أن يستصحب معه الخوف الشديد بمظاهره السلوكية الآنفة الذكر. وبالتالي تقدم الأنشطة هذه فرصة المقارنة والتحليل واستخلاص المعرفة الجديدة التي ينبغي له الوصول إليها. وهذه الأنشطة البديلة، تقدم للطفل فرصة الدخول في تجارب جديدة كلياً، وهي بدورها ستعيد إشراك الطفل في الدورة الاعتيادية للحياة تدريجياً... فإن "التجارب علمٌ مستأنفٌ" كما في الحديث.
في الخلاصة، إن الامساك بيد الطفل للخروج من الخوف الذي تسببه الحروب، هو أمرٌ تربوي بالغ الأهمية، ويحتاج إلى التفكير والتخطيط والروية، والاستعانة بالخبراء واستشارة المختصين لمواكبة الأهل في هذه العملية في حال شعروا بالحاجة للاستشارة والمساعدة، كي تمرّ هذه التجربة بأقل ضرر ممكن، وآثارٍ لا تبقى محفورة في الكيان النفسي والعاطفي للطفل.
[1] أستاذ جامعي ومربي، وباحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية-بيروت.
تعليقات