Cancel Preloader
دراسات ومقالات المركز

دور الأسرة في الحفاظ على الذاكرة الجمعية

دور الأسرة في الحفاظ على الذاكرة الجمعية

دور الأسرة في الحفاظ على الذاكرة الجمعية

الكاتب : الشيخ د. محمد النمر

تعدّ مباحث الذاكرة الجمعية من المباحث الحديثة نسبيا في العلوم الانسانية حيث يعود تاريخها إلى القرن الماضي كمصطلح، وهناك عدة مصطلحات مشابهة كالذاكرة الاجتماعية والذاكرة الجماعية[1] والذاكرة الثقافية، بعض الباحثين يرى أنّ هناك فروقات فيما بينها وبعضهم لا يفرق فيما بين هذه المصطلحات، ونحن هنا سنعتمد مصطلح الذاكرة الجمعية، كمفهوم يشير إلى الطريقة التي تتذكر بها المجتمعات ماضيها المشترك، وتصوغ سرديّات جماعية للهوية، والحدث، والقيمة، والانتماء، فهي  ليست مجرد تجميع للذكريات الفردية، بل  هي منظومة جماعية للذاكرة تتشكل من خلال العائلة والتعليم والتربية والشعائر والطقوس والإعلام والفن... وتُستخدم للحفاظ على تماسك المجتمع أو لإعادة تفسير تاريخه وهويته في الحاضر، فيتم تذكر الأحداث المهمّة في تاريخ المجتمع، ورموزه، وشهداءه وأبطاله وقادته وانتصاراته ومآسيه، وتراثه. وتعتبر الذاكرة الجمعية أداة لربط الماضي بالحاضر، وتستخدمها المجتمعات لبناء الشعور بالهوية والاستمرار للتماسك الاجتماعي، أو للمقاومة، أو لإضفاء شرعية على بعض الخيارات السياسية أو لتبرير مواقف سياسية وثقافية واجتماعية. وهذه الذاكرة تعتبر انتقائية تختار ما يُناسب الرواية الجماعية، وتُصاغ من خلال مؤسسات مثل المدرسة، المسجد، الأسرة، المتحف، الدول.... كما أنّها قابلة للتغيير وإعادة التفسير عبر الزمن بحسب السياق السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، وتختلف باختلاف المجتمعات والطبقات والفئات، فيمكن تذكر نفس الحادثة بطرق مختلفة بحسب قيم الجماعة ومبادئها وعقيدتها.

 

فالمجتمع يحتوي على أمور مادية ملاحظة، تتمثل في السلوك والعادات والتقاليد أي ممارسات الناس في حياتهم الاعتيادية يومياً، والتي يمكن رصدها وملاحظتها على نحو مباشر، وأمور غير مادية تتحكم بسلوك الناس وتؤثر فيه، تسمى الذاكرة الجمعية، والتي تنتقل عبر الأجيال بالتنشئة والتربية، وبما أنهّا مفهوم اجتماعي، فلا ذاكرة ولا تذكرُّ من دون جماعة أو بمعزل عنها، وتؤثر الذاكرة الجمعية في وعي الأفراد وبصيرتهم.

 

يرى "هالبواكس"[2] أنّ الذاكرة ليست فعلًا فرديًا خالصًا، بل تُبنى داخل الأطر الاجتماعية، أي أنّ الإنسان لا يتذكّر وحده، بل يستحضر ماضيه ضمن جماعة تشاركه السياق، اللغة، الرموز، والمناسبات. فالجماعة هي من تُعطي معنى للذكريات وتوجّهها، وتؤسس هويتها عبر التذكر الاجتماعي نتيجة للتفسير المشترك والاستدعاء المشترك للحوادث لهذه الجماعة، وتكون الذّاكرة الجّمعيّة مصدراً للتاريخ من خلال جميع أوجه النشاط الثقافي والمعرفي لهذه الجماعة ومن أهم هذه الأوجه: الشعر والخطابة، والسير والقصص والحكايات والبطولات الجّمعيّة ومقاومة الاحتلال والحروب، والفن، والأسطورة، وكذلك من خلال الأحداث العامّة الطبيعية التي تعرضت لها الجماعة البشرية فأضحت في الذّاكرة الجّمعيّة التي تخصّ: الزلازل، والفيضانات، وسني المجاعة والرخاء مما لا ينسى عادة.  كما يعتبر "هالبواكس" وجود "أطر اجتماعية للذاكرة[3]" وهي مثل الدين، العائلة، الطبقة، اللغة، المدرسة… تشكّل القالب الذي تُستعاد ضمنه الذكريات. فإنّ استناد الأفراد في تجديدهم للماضي إلى الإطارات المرجعية الاجتماعية، يجعل ذكرياتهم ذات طابع مرجعي ـ جمعي. لم تعد الذكريات الفردية إذن متمركزة ومنحصرة في داخل الفرد بل أضحت تملك مكانا لها ضمن المنظومة الاجتماعية كنتيجة لتفاعل هذا الفرد مع محيطه الاجتماعي، فعن طريق الحوار مع الآخرين (مثلا مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم) يتسنى للمرء تذكر محطات وتجارب هامة في حياته.

 

 وقد قدّم "جان أسّومان"  [4]تصنيفا ثنائيا للذاكرة بحسب مداها الزمني، فقسمها إلى:

 ذاكرة تواصلية[5]  وهي ذاكرة قصيرة المدى نسبيا تدوم بين 80-100 سنة، تُنقل عبر التفاعل اليومي والذاكرة الشفوية بين الأفراد، وترتبط بالخبرات الشخصية أو الجماعية الأخيرة (مثل ذاكرة الحرب أو الثورة أو أي حدث مهم حصل في المجتمع)، ومن مميزاتها أنها لا تحتاج إلى وسائل مادية للحفظ، بل تعتمد على العلاقات الحيّة بين الناس (العائلة، الجيران).

 

 وذاكرة ثقافية [6] وهي ذاكرة طويلة الأمد، تمتد إلى قرون أو آلاف السنين وتعتمد على وسائل تثبيت خارجية ومؤسساتية مثل : النصوص المقدّسة، الطقوس والشعائر والمعالم والنُصب التذكارية، والآثار،  المنهاج المدرسي، الأدب، المسرح .... وهي تحمل رموزًا وأُطُرًا تفسيرية دائمة، وتُمارَس بانتظام لتعيد إنتاج الهوية داخل المجتمع، لذلك من الممكن أن تتحول الذاكرة التواصلية إلى ذاكرة ثقافية إذا تم تثبيتها عبر المؤسسات الاجتماعية.

 

وبما أنّ الأسرة تعدّ احدى الأطر الاجتماعية للذاكرة، فمن المهمّ التركيز على دورها وأهم الوسائل التي يمكن استخدامها من أجل تثبيت الذاكرة والمحافظة على الهوية والقيم الاجتماعية.

 

فبحسب "ماري دوغلاس"[7]، يمكن فهم الأسرة ليس فقط كوحدة اجتماعية تُعنى بالتربية والرعاية، بل كأول "مؤسسة رمزية" تُشكّل النظام الإدراكي للطفل، وتزرع فيه أنماط التمييز والتصنيف التي ستوجّه وعيه بالذات والمجتمع والآخر. فوفق دوغلاس، لا تُبنى الذاكرة الجمعية على الوقائع وحدها، بل على الرموز، الطقوس، والتصنيفات التي تحدد ما هو "داخل النظام" وما هو "خارجه". وهنا تظهر الأسرة بوصفها الفضاء الأول الذي يُنقل من خلاله هذا النظام الرمزي.

 

فمثلًا، حين تُحيي الأسرة مناسبات دينية أو وطنية معينة، وتُغفل أخرى، فإنّها لا تُعلّم الأطفال الوقائع فحسب، بل تُرسّخ في وعيهم ما يستحق التذكّر، وما يُقصى من الذاكرة. كما أنّ تعليم الأطفال لغةً بعينها، أو طقوسًا معينة، أو حتى توجيههم نحو نظافة محددة أو لباس معيّن، يحمل في جوهره رسائل تصنيفية خفية: ما هو "لائق/غير لائق"، "نقي/مدنّس"، "نحن/هم". بذلك، تصبح الذاكرة الجمعية عند الطفل امتدادًا للنظام الرمزي الذي تعتمده أسرته، فتساهم هذه الأخيرة في بناء عالم داخلي يكون فيه الماضي حاضرًا لا من خلال الوقائع المجردة، بل من خلال عدسة رمزية تُعيد تشكيله باستمرار. وهذا يُفسّر كيف يمكن لطفلين في أسرتين مختلفتين أن يكون لهما وعيان متضادّان تجاه حدث واحد، تبعًا لما ورثاه من رموز وتصنيفات.

 

يعتبر الإسلام الأسرة اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ويُشدد على أهمية صلة الرحم ونقل القيم الدينية والأخلاقية عبر الأجيال. كما يحثّ على تعليم الأبناء السيرة النبوية ص وأهل البيت ع والتاريخ الإسلامي والاعتبار من الماضي، مما يعزّز الوعي بالهوية الإسلامية والاستفادة من دروس الماضي، وتُعدّ المناسبات الدينية، مثل الأعياد وشهر رمضان وعاشوراء، فرصًا لتذكير الأجيال بالتاريخ الإسلامي وتعزيز التربية الايمانية وتعزيز الذاكرة الجمعية.

 

وفي ظلّ التحديات الراهنة التي تواجه المجتمع المقاوم، لا بدّ من العناية بالتربية الأسرية من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية والذاكرة الجمعية التي تميز هذا المجتمع، وخاصة في محاولة لطمس هويته الايمانية والمقاومة والثورية والاصلاحية، خاصة من خلال استخدام وسائل الحرب الصلبة والناعمة وحصار الشعوب المسلمة ومحاولة تركيعها، بالإضافة إلى مهاجمة القيم ومحاولة تبديلها في المجتمعات المؤمنة عبر وسائل التواصل والاعلام والعولمة وتغيير المفاهيم، كما أنّ تغير بنية الأسرة وتراجع الروابط الأسرية يؤثر على نقل الذاكرة الجمعية للأجيال.

 

ومن وسائل حفظ الذاكرة الجمعية عبر الأسرة نذكر أهمّها:

  1. التواصل الشفهي عبر سرد القصص والحكايات والأحداث المرتبطة بالعائلة والمجتمع والتعليم والتربية الايمانية.
  2. الاحتفال بالمناسبات الدينية واحياؤها.
  3. تعزيز زيارة المسجد وممارسة العبادة فيه.
  4. التوثيق العائلي للأحداث عبر الصور والوثائق والمذكرات.
  5. التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية داخل الاسرة لنقل المعارف الدينية والقيم والثقافة والعادات والتقاليد.
  6. المشاركة في الأنشطة الثقافية والمجتمعية والدينية.
  7. الحفاظ على اللغة الأم ولغة القرآن الكريم للمسلمين.
  8. زيارة المقامات المقدسة والمشاهد المشرفة.
  9. المشاركة في المنظمات والجمعيات التربوية كالكشاف.

 

ولما للذاكرة من بعد تربوي وأهمية في الهداية والايمان نجد القرآن الكريم يأمر بالتذكير بأيام الله، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم، 5) وقد فسرت بأيام النعم والنصر والعذاب والبلاء، فالتذكير بأيام الله يُعد وسيلة تربوية لتعميق الإيمان، وتعزيز الصبر والشكر، والاتعاظ من مصائر الأمم السابقة. كما يُسهم في ترسيخ الهوية الدينية والثقافية، ويُحفّز على الالتزام بالقيم والمبادئ الإسلامية.


والروايات الواردة من أهل البيت (عليهم السلام) تشير أنّهم فسروا " أيام الله " بأيام مختلفة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال " أيام الله، يوم يقوم القائم (عليه السلام) ويوم الكرة ، ويوم القيامة " .
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم " أيام الله ثلاثة أيام، يوم قيام المهدي (عليه السلام) ويوم الموت، ويوم القيامة ". وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه سبحانه

لذلك على الأبوين الاهتمام بالمناسبات الدينية وكل ما يعدّ من أيام الله من أجل تعزيز الذاكرة الجمعية لدى الأبناء، عبر الوسائل المختلفة لإحياء المناسبات، من أجل الاستفادة من الدروس والعبر وتعزيز الهوية الثقافية وتحصين الأسرة من التحديات التربوية المعاصرة والفساد الذي يمكن أن يدمرها.

 

إنّ تحصين الذاكرة الجمعية الايمانية والثقافية للأبناء من شأنه أن يعدّ مجتمعاً صالحا قادرا على التكامل والترقي في مراتب الحياة الطيبة، مجتمعا قادرا على مواجهة التحديات ومؤامرات الدول المستكبرة لتدمير ثقافة الشعوب وتغيير هويتها الثقافية والدينية والمقاومة.

 

 


المصادر:

  • القرآن الكريم
  • تفسير الأمثل
  • Halbwachs, Maurice. On Collective Memory. University of Chicago Press, 1992.
  • Najjaj, April. "Collective Memory of Al-Andalus: The Islamic Perspective."
  • Knight, Michael Muhammad. Who Is Muhammad? Subjectivity and Muslim Collective Memory. University of North Carolina Press, 2023.

 

 

[1]- Collective Memory, Social Memory .

[2] - Maurice Halbwachs.

[3] -cadres sociaux de la mémoire

[4]- Jan Assmann

[5]Communicative Memory

[6] - Cultural Memory

[7] - Mary Douglas

آخر تحديث : 2025-06-10
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا

  • shape
  • shape
  • shape
  • shape