الروتين اليومي، فرصة لتأمين الاستقرار الأسري ما بعد الأزمات والحروب

(الجزء الأول)
الأزمات والحروب المعاصرة في مجتمعنا
تعاني منطقتنا بشكل عام وبلدنا لبنان بشكلٍ خاص من عددٍ من الأزمات المتعددة الأبعاد، والتي واجهناها من العام 2019 م حتى العام 2025 م، والتي تنوعت ما بين: اضطرابات سياسية (تحت مسمى الثورة والحراك الاجتماعي)، تدهور اقتصادي للعملة الوطنية، جائحة كورونا، الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين خاصة في غزة (كان لها ارتدادات على الداخل اللبناني من خلال المشاركة الأخلاقية والشريفة في حرب الإسناد لغزة وفلسطين)، الحرب الهمجية الأميركية الإسرائيلية الأخيرة على لبنان في أيلول 2024 م، اغتيالات غير مألوفة، وعلى رأسها اغتيال الأمين العام السيد الشهيد الأسمى (رضوان الله عليه)، واستهداف قيادات في المقاومة، تحدي العودة وإعادة الإعمار.
هذه الأزمات جميعها أدّت لخلق نوع من القلق والاضطرابات الطويلة الأمد لدى الأسر بشكل عام والأبناء بشكلٍ خاص، نظرًا لكثرة هذه الأزمات وتعدّدها وطول أمدها (الأزمات مركّزة بشكل كثيف منذ ما يقارب الست سنوات حتى يومنا الحالي 2025 م).
ولهذا سيتم طرح السؤال الآتي: كيف يمكن تحقيق الاستقرار النفسي لدى الأسر والأبناء خلال الأزمات والحروب استنادًا على الروتين اليومي للأسرة؟
تعريف الروتين اليومي
يُعتبر لفظ يومي من الألفاظ العربية الفصحى، فهو مشتق من لفظ يوم، حيث أننا في معظم المعاجم العربية نجد أن هذا اللفظ يرتبط بما يتم تكراره بشكل آلي كل يوم دون انقطاع (درار، 1998، الصفحات 31-39)، فالتكرار اليومي أو الدوري والتداول، هي سنّة طبيعية أودعها الله في الكون وفي أرضه وبين خلقِه بسم الله الرحمن الرحيم "وَتِلكَ الأيَّامُ نُداوِلُها بَينَ النَّاسِ" (القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 140).
كما ثَبُت أن لفظ الحياة اليومية استُعمل قديمًا في الإنكليزية في القرن السابع عشر، ليدل على مختلف طرق الحياة العادية مثل العمل الروتيني والمألوف والتفاعلات اليومية العادية المتكررة بين الأفراد (Turner, 2006, p. 180).
وأيضًا يُقصَد بالروتين اليومي هو كل ما يحيط بالفرد ويدركه حالاً، ومن دون واسطة، ليصبح قريباً منه وحاضراً في ذهنه حضوراً مستمراً، فاليومي إذًا هو كل ما يظهر في العالم في شكل تكرار ومعاودة كنمط موحّد، فهو ليس فقط محيط الحياة العادي والمعروف، بل هو قوة تأسيسية تستوعب كل الأحداث والأفعال لتعطيها نمطًا موحّدًا، فاليومي يضم كل الأشياء العادية كما يضمّ أيضًا كل ما سيجعل الأشياء تتحول إلى عادية، بهذا يمكن القول كل الأشياء التي تقبل المعاودة والظهور المستمر والتكرار تدخل ضمن الروتين اليومي (التريكي، 2009، الصفحات 60-62).
بناءً على ما تقدّم من تعريفات يمكن القول بأنّ الروتين اليومي، هو عبارة عن الأعمال والمهام والمسؤوليات والنشاطات العاديّة التي تتكرّر بشكل يومي وآلي في حياة الفرد، كالاستيقاظ صباحًا، وتنظيف الأسنان في الفرشاة مساءً، ولبس الثياب، وأكل الطعام، والذهاب للعمل، ومجالسة الأبناء، ..إلخ. وهي قد تختلف من شخص لآخر، فلكل فرد روتينه الخاص، ولكل أسرة روتينها الخاص، ولكل منطقة ولكل بلد أيضًا روتينهم الخاص، فالروتين اليومي هو انعكاس لثقافة وهوية وعادات وقيم الأفراد.
أهمية الروتين اليومي
الروتين اليومي جزء هام من الحياة اليومية، حيث تعمل الروتينات الثابتة اليومية على تنظيم حياتنا لأنها توفّر الاستقرار، وتجعل الحياة اليومية قابلة للتنبؤ بها، وبالتالي تسمح بصياغة التوقعات، وإمكانية التخطيط الدقيق للمستقبل القريب. وهذا الروتين اليومي يعمل ويعدّ فعّالاً على المستوى الفردي والأسري. فلا يتعين علينا إعادة اختراع جدول أنشطتنا اليومية كل يوم مرارًا وتكرارًا وهذا بدوره يسهل نمط الحياة الأسرية وتعزيز الاستقرار النفسي لدى أفرادها. وبوجود هذا الروتين اليومي يصبح التعايش مع باقي أفراد المجتمع أسهل بكثير، لأن الاستقرار والقدرة على التنبو والتوقعات يتم تقاسمها معًا كثقافة جماعية للحياة اليومية بما يتوافق مع الإيقاعات الزمنية الجماعية للمجتمع، وكلما زاد عند الناس الذين ينظمون روتينهم اليومي وفقا لهذا الإيقاع الجماعي كلما زاد هذا الأمر من تعزيز الروح الجماعية بين أفراد المجتمع (VanTienoven, 2017, p. 9).
والإسلام أيضًا يؤكد على مسألة الروتين اليومي من خلال التخطيط لتقسيم الوقت اليومي للإنسان، لما له من أثر على استقراره النفسي وعلى الاستغلال الجيد للوقت بطريقة مثلى، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم): "على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له أربع ساعات، ساعة يناجي فيها ربه عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب وتوزيع لها" (الريشهري، 1416 هـ، صفحة 1111). وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات، ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرم" (الريشهري، 1416 هـ، صفحة 1111).
أما ما هي أهمية الروتين اليومي في تأمين الاستقرار الأسري خلال الأزمات والحروب؟
وكيف يتم إعادة العمل بالروتين اليومي للأسرة، وتحديدًا بعد الأزمات والحروب؟
فهذا ما سيتمّ تناوله في الجزء الثاني من هذا المقال.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- عبد السلام درار. (1998). الغير مألوف في المألوف. فكر ونقد(13)، 31-39.
- فتحي التريكي. (2009). فلسفة الحياة اليومية. تونس: الدار المتوسطية للنشر.
- محمد الريشهري. (1416 هـ). ميزان الحكمة. قم: دار الحديث.
-Bryan Turner. (2006). The Cambridge Dictionary of Sociology. New York: Cambridge University Press.
-Theun VanTienoven. (2017). Daily routines, Studying temporal structures and the organisation of everyday life. Brussel: Vrije Universiteit Brussel.
مرشد الدراسات الأكاديمية
د. علي الرضا فارس
تعليقات