Cancel Preloader
ندوات المركز

التربية الجهادية قراءة في المفهوم والآفاق

  • 2024-08-27
  • 692
التربية الجهادية قراءة في المفهوم والآفاق

نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي رقم 6 للعام 2024 وذلك عصر نهار الخميس بتاريخ 15-8-2024 م، تحت عنوان [التربية الجهادية قراءة في المفهوم والآفاق] (قدمه الدكتور عبد الجواد قصير).

 

الضيف الأساسي فضيلة الشيخ حسان سويدان.

 

بدأ بتقديم الملتقى  الدكتور عبد الجواد قصير قائلا :

بسم الله الرحمان الرحيم "لاَ يستوِي القاعِدُونَ مِنَ المؤمنينَ غَيرُ أُولِي الضَّرَرِ والمُجَاهِدوُنَ فِي سَبيلِ اللهِ بأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فضَّلَ اللهُ المُجَاهديِنَ بأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم عَلَى القَاعِديِنَ دَرجةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسنَى وفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجرًا عَظِيمًا".

إن الجهاد في سبيل الله أحد فروع الدين والتربية على الجهاد هي أحد أبعاد التربية وفقا لما أقرته الوثيقة التربوية، وانطلاقا من أهمية هذا البعد من الأبعاد الإنسانية وما له من أثر على الفرد والمجتمع، لا سيما في المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية الآن، يطرح مركز الأبحاث والدراسات التربوية الأمر على بساط البحث العلمي، فخصص له سلسلة من الملتقيات التربوية للحديث عنه من جوانب متعددة.

وفي هذا الملتقى نتحدث عن مفهوم التربية الجهادية وآفاقها ولذلك نفذت مديرية الدراسات الميدانية استطلاعاً ميدانياً ما بين 10 و 13 آب بمشاركة قرابة 900 مستطلعا ومستطلعة، كانت خلاصته كالآتي:

يظهر أن واقع التربية الجهادية في مجتمعنا سليمة عموما، مع وجود بعض النواقص والثغرات التي تحتاج إلى متابعة وتثقيف وتوعية على مستوى المفهوم أو الواجبات والأشكال.

 

ولذلك في هذا الملتقى سوف نركز على المحاور الآتية:

ما هو المعنى الحقيقي للجهاد؟ وما علاقته بالمقاومة العسكرية؟

هل يحتاج الجهاد إلى التربية؟ وما المقصود بالتربية الجهادية؟

كيف تلتقي التربية الجهادية مع أصالة المشروع الإسلامي في صناعة الإنسان؟

ما هي الآثار المجتمعية التي يمكن أن تترتب على تربية جيل جهادي؟

وأخيرا إذا أخذنا الجهاد بالمعنى العسكري؟ فبماذا تختلف التربية الجهادية عن أي تربية عسكرية أخرى؟

 

مداخلة فضيلة الشيخ حسان سويدان:

بسم الله الرحمان الرحيم "إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ".

 

مفهوم الجهاد من المفاهيم شبه الواضحة على المستوى اللغوي، حيث لم ألحظ اختلافا لغويا مهما في هذا المجال، يوجد اختلاف صغير لكنه غيرمهم.

المادة الأساسية ثلاثية من الجيم والهاء والدال، تطلق بالفتح في أولها وبالضم الجَهد والجُهد، إذا أطلقت بالفتح تعني الوُسح وبذل الوُسح. وإذا ما أطلقت بالضم فإنها تعني المشقّة، وهما متلازمان في العادة، ومن هنا ذهب جملة من اللغويين إلى عدم التفرقة بين الفتح والضم في المعنى. وكلما زيد عليها من حروف في المباني، فهي على القاعدة المعروفة عند العرب، زيادة في المعاني. فالجهاد يعني على صيغة فعال، المبالغة في بذل الوسع والمشقة، والاجتهاد في اللغة يقارب الجهاد، مع زيادة هي تعني نتيجة البذل للوصول إلى الغاية والهدف. وهناك من لم يفرّق أصلا كثيرا بين كلمة جهاد وإجتهاد، فنستطيع أن نستخلص على المستوى اللغوي أن هذه المادة أصلها من المشقّة، لأن بذل الوسع يلازم المشقّة، سواء كانت فكرية أم فيزيائية جسدية، مالية كانت أم نفسية، نفسية في ميدان القتال أم في بقية الميادين كالعامل في عمله.

أما اصطلاحا، فقد أطلق الجهاد في الفقه، وأريد منه عند مشهور الفقهاء جهاد العدو الابتدائي، المعبّر عنه بجهاد الدعوة، ويقال له جهاد الدعوة لأن الدعوة شرط في مشروعيته، فإذا دعا واستيئس من القبول، انتقل إلى الجهاد العسكري، وهذا المشهور يرى أن ما يُعبَّر عنه بالجهاد الدفاعي، هو الدفاع، وليس داخلا في المصطلح الفقهي بالمعنى الخاص للكلمة، ومن هنا وجدنا الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه الذي لم يتضمن كتابه تحرير الوسيلة كتاب الجهاد، فأضاف على وسيلة النجاة للسيد الإصفهاني عندما حررها ونقحها وضمنها فتاويه مسائل في الدفاع، ولم يسمها جهاد. ثم إن هنا نكتةً لا يحسن بنا أن نمضي في الكلام قبل الإشارة إليها، وهي أن الجهاد في أساس معناه، هذا الجهاد الخاص العسكري، هو من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه العام، فإن هنالك فرقا بين كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي نلحظه في الرسائل العملية، والذي صيغ في إطار خاص لأسباب تاريخية لها علاقة بالوضعية الاجتماعية والسياسية للمدرسة الشيعية، وإلا فإننا نجد فقهاء كبار ومن أبرزهم المحقق النجفي الذي هو من أكابر فقهاء الشيعة صاحب كتاب جواهر الكلام الذي هو أهم موسوعة، والذي كان الإمام الخميني يفتخر بأن فقهه فقه جواهري، عندما يبدأ بالكتابة في كتاب الجهاد يصرح ويقول هو من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكلمة الإمام الحسين عليه السلام تجري على هذا المعنى العام للأمر بالمعروف، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، مع أنها نهضة إلى حد التسليح والدفاع، ولو نتج عن ذلك المحنة والفاجعة الخالدة.

وعلى هذا الأساس يتضح أن المعنى اللغوي للجهاد، أي النسبة بينه وبين المعنى الخاص الاصطلاحي الفقهي، بالمعنى العسكري، هي نسبة العموم والخصوص المطلق كما هو واضح، إذ كل ممارسة للجهد في سبيل الله عز وجل، حتى لو قيدناها في سبيل الله، مع أنها لغويا ليست مقيدة في سبيل الله، مدنية كانت أو عسكرية، حتى الكاد على عياله، فهو مجاهد بلا إشكال.

ويوجد اصطلاح فقهي آخر للجهاد وعُنونت به بعض الكتب الفقهية وبالأخص الروائية منها، ومن أهمهم الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي رقضوان الله عليه في وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس، وهذا جَريٌ على المعنى العام للكلمة، عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لمن عادوا من سرية لهم "مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر".

 

إذا علم المعنى، لا بد أن نعترف أن أي ممارسة إنسانية، على خلاف الراحة والتحلل من الأعباء والمشقات تحتاج إلى برمجة، وتحتاج إلى جهد فكري أو تحتاج إلى جهد عملاني وبالأخص، تلك التي تحتاج إلى التقنين، لا إشكال ولا ريب في أنها تحتاج إلى ممارسة من الإنسان على خلاف الطبع الأولي الذي يقضي بالإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى، وهذا يعني بشكل طبيعي، أن الفرد حتى يتلبس بعنوان عام، جهادي بالمعنى اللغوي الأعم، فلا بد له من تربية إنسانية خاصة لكي يستطيع أن يقوم بالعمل والجهد، نعم لا بد أن نقر ونذعن في هذا المجال بأن بعض الأعمال التي تحتاج إلى ذلك، يتعود عليها الإنسان، فيتروَّح لها، ثم ينطلق إلى عُبَابِها، وما يتكرر منها معه عادةً، يصبح أمرا يسيرا له. مع أن تحول الجهاد بمعناه الأخص إلى مجرد عادة خطر على الجهاد وخطر على المجاهدين على المستوى القيمي والمعنوي والتربوي، إذا اقتُصر على جنبة العادة في هذا المجال. ولا أقصد العسكرية هنا فحسب، بل كل الأعمال الجهادية التي يقوم بها الإنسان استجابة لله ولرسوله (ص)، فإذا تحولت إلى عادة في الحياة، افتقدت شيئا فشيئا روحها ومعناها، ما لم تكن العادة مقرونة دائما بوعيها، ومن هنا يأتي في هذا السياق الحديث الشريف "لا تنظروا إلى كثرة صلاة المرء وصومه، فربما كانت عادة تعودها، ولكن انظر إلى صدق الحديث وأداء الأمانة" هنا المحك في أن صلاته هل تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وصومه هل حول حياته إلى مُجتنٍّ بِجُنةٍ من النار أم لا؟ حينئذ يُمتحن فيما هو على خلاف الطبع، وعلى خلاف مصالحه ومشتهياته وهواه، إذا دخلنا هذا المدخل وعرفنا أن الإنسان لا تتكون إنسانيته بعد مرحلة الطفولة، إلا إذا كان مجاهدا إنسانيا، أي إنسان صبور، ولديه القدرة على التحمل، والقدرة على الالتزام بالقانون والضوابط . تصوروا مجتمعا بشريا دون الصبر والتحمل، فإنه يكون عملا محكوما بشرعة الغاب، فعليا القوي يأكل الضعيف، وهذا ما تؤول إليه الأمور، لا يعود إنسان منضبط في الحياة، من هنا أستطيع أن أدّعي بأن النظم في مستوياته الأساسية لتكوين حياة اجتماعية إنسانية، ضروري فطري عند الإنسان، كفطرية الاجتماع الإنساني والبشر، لأن الإنسان بمجرد دخوله إلى خضم الاجتماع البشري لا بد له على قاعدة ضرورية كونه اجتماعيا من التحلي بمجموعة من الضوابط، حتى يستطيع أن يعيش ضمن القطيع البشري، وإلا فلن يستطيع ذلك. إذا اتضح هذا الأمر، لا إشكال ولا ريب في أن الأديان قامت على أساس نظام منضبط حتى في أدق التفاصيل. تجد الدين الإسلامي يضبط إيقاعه في العلاقة بين العبد وربه على أساس نظام دقيق وخاص، من الصلاة إلى الصيام إلى الحقوق إلى آخره، فإذا صلى قبل بدقيقة، بطلت صلاته، ففي صلواته الخمس اليومية الواجبة على الأقل، عليه أن يراعي تراتبية دقيقة على مستوى الزمن، ما يجعله يبدأ من مجرد انتسابه إلى أوليات هذا الدين إنسانا مجاهدا لنفسه منضبطا، فلا بد أن يضبط إيقاع عمله وإيقاع حياته وإيقاع حركته على وقت الصلاة، فحتى من يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، ما لم يكن إنسانا عاصيا، مضطر بأن يضبط إيقاعه بأن يأتي بصلاته قبل انتهاء الوقت.

وهنا مسرح الدرجات، فأي مفردة تشريعية دينية نأخذها فهي تربية بالمعنى الإنساني للإنسان على الانتظام ضمن القانون وضمن قيم إنسانية عامة، نعم فرق الدين عن بقية القيم الإنسانية بما هي قيم إنسانية أنه يربط الإنسان بمنطلقاته الأساسية ويجعله يلحظ الغايات والأهداف (النهايات). الإنسان بما هو إنسان ينطلق من إنسانيته ويمضي ويجري في هذه الحياة، لكن الإنسان المنتسب إلى الدين، المنتسب إلى الله سبحانه وتعالى، لا يستطيع إلا أن ينطلق من منطلق إلهي، لأن الله هو الحقيقة المطلقة والحق المطلق، وهو يمارس حق الله عندما يمارس حقه في الحياة، لأن الله هو الذي انبثق منه هذا الحق. وعلى هذا الأساس فكل القيم الانسانية هي قيم دينية عند ارتباطها بمبادئها ومنتهاياتها. وعلى سبيل المثال فالصبر الذي هو أمّ القيم الإنسانية، فالإنسان الذي لا يملك أي صبر، لا يستحق اسم الإنسانية أصلا، فحتى الحيوانات لديها صبر عن الكثير من الأشياء، فرباطة الجأش قيمة إنسانية عليا أمام التحديات والمشتهيات، وجاء الدين ليربطها ربطا حقيقيا بالمبادئ والغايات "وبشّر الصابرين"، فلمّا عرّف الصابرين الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنا لله، ولم يقل الذين  ربطوا جائشهم، فالإنسان قد يربط جأشه تجلدا أو وجاهة، فمثلاً شيخ العشيرة مات ابنه فعيب أن يبكيه أمام أفراد العشيرة، فهذا ضعف له، بينما إذا خلى بنفسه يبكي بكاء الثكالى.

 

الدين بشّر بالجنة صاحب القيمة الإنسانية المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، المنطلقة من الله والآيلة العائدة إلى الله سبحانه وتعالى، إذا جئنا إلى القتال في سبيل الله، الجهاد بالمعنى العام للكلمة الفقهي، أي كل أنواع القتال الابتدائي والدفاعي، والمقاومة في الحقيقة يراد منها الجهاد الدفاعي، فهي شعبة من من شُعَب الجهاد الدفاعي في الحقيقة، حتى لو هاجمنا ابتداء عدوا احتل أرضنا، هذا عنوانه في الفقه جهاد دفاعي وليس جهاد ابتدائي، فالجهاد الابتدائي هو الفتح لأول مرة لبلد كافر لم يجري عليه حكم الإسلام سابقًا، فمثلاً تحرير إسبانيا هو جهاد دفاعي لأنه مضى عليها حكم إسلامي اسمه دولة الأندلس، فهذا جهاد دفاعي حتى لو بعد قرون، وهذا لا يسقط بمرور الزمن، فلا يتغيرالعنوان فقهيا. فمن الوضوح بمكان في أن الجهاد يحتاج إلى تربية بشكل طبيعي، لأنه جهد إنساني استثنائي يحتاج إلى كل منظومة القيم الإنسانية من الصبر والتحمل والاستعداد للتضحية والإيثار، بل تتجلى هنا القيم في أعلى مصاديقها. وإذا أردنا ربط هذه القيم بالدين،  فعلينا ربطها بالمبدأ والمنتهى، لأن الإنسان موقعيته أنه العابد لله، العابد بالمعنى العام للكلمة، المطيع لله العارف لله، ولذلك ورد في تفسيره عن الصادق والباقر عليهما السلام أحدهما قال "إلا ليعرفون إلا ليعبدون" والآخر "إلا ليطيعون". فلا إشكال ولا ريب حينئذ في أن هذه القيم عند ارتباطها بالحق المطلق لمن يعتقد أن هذه الدنيا

وعاء ودار زخرف وزينة وتفاخر ومتاع الغرور، من الطبيعي جدا أن الإنسان عندما يربطها بغاياتها يصبح صبره بلا حدود "وما صبرك إلا بالله" يعني الكم، مستوى الاشتداد للقيمة الإنسانية صار أعلى، ومستوى الكيف أيضا لم يعد فقط رباطة جأش، ولذلك هو قد لا يصبر على أشياء الناس تراها بسيطة، لأنها على خلاف المبدأ والمنتهى الذي ينظر إليه، بينما الناس قد تمرّعلى أذهانهم وعلى مسماعهم مئات المرات كسماع المحرم مثلا، أو كالغيبة وغيرها، إذا انسان ملتزم بشكل دقيق. على هذا الأساس نعلم ان هذه القيم الانسانية هي قيم دينية. يتربى عليها الإنسان بطبيعة الحال من خلال التعويد مع البقاء ضمن الوعي، وبالمناسبة فهذه القيم كلها إذا تأملنا بها فهي ترجع للصبر. فمثلاً إنسانيا الكرم ما هو؟ الكرم هو بذل وعطاء، وهذا الكرم يحتاج لصبر أن يُخرج الإنسان المال ليدفعه لأصحاب الحقوق، من خلال تحويل العلقة الوضعية التي فيه ليحولها للعلقة الوضعية من الفقير صاحب الحق، أما البخل فلا يحتاج لصبر. وكمثال آخر الشجاعة أو الثبات في الميدان، أيضًا تحتاج إلى صبر.

 

فعليًا كل القيم الإنسانية تقريبًا ترجع في عمداتها إلى نوع من أنواع وشُعَب الصبر، لذلك التركيز على الصبر بالحروب في هذه الأيام بسم الله الرحمان الرحيم "بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم رَبُّكُم بِخَمسَةِ آلَافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ". على هذا الأساس نصعد في درج القيم، فالقيم الإيمانية إذًا هي اشتداد للقيم الإنسانية، وفي الجانب الكيفي أيضا هي ربط بالمبدأ والمنتهى والمعاد، فخير من يمثل هذه القيم في أعلى مراتبها ودرجاتها هو الذي باع الله سبحانه وتعالى وبايعه على البيع، فيها نكتة حلوة هذا الآية قال "فاستبشروا" ولم يقل إذا استشهدتم فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم، ما دمتم على المبايعة وعلى العهد الذي عاهدتم الله عليه فاستبشروا، حتى لو توفيتم على الفراش.

 

على هذا الأساس نعرف أن القتال إنسانيا وليس فقط اسلاميا يحتاج لتربية على هذه القيم بشكل معمق، في أي مجتمع من المجتمعات، فهم أنبل الناس في مجتمعاتهم، حتى في المجتمعات الإلحادية، لأنهم مستعدين أن يضحوا بأنفسهم في سبيل أوطانهم وبلدانهم وما إلى ذلك، ويتم تقديسهم في بلدانهم عبر وضع أسمائهم على مداخل المدن أو عبر تسمية الشوارع بأسمائهم، وهذه التخليدات جيدة ونحن لسنا ضدها دينيا، ولكن المهم هنا أن الجهاد في سبيل الله هو ليس مطلق قتال، هنا يوجد مفارقة، وهنا لبّ المطلب، بين تربية بطل مقاتل، وكل الناس قد تربي أبطالاً، فكل الناس عندها مضحيين، حتى استشهاديين بالمعنى الفيزيائي للكلمة. وبين تربية مجاهد، فتربية المجاهد هي ليست فقط اشتداد للقيم الإنسانية، تربية مجاهد هي اشتداد للقيم الإنسانية بعد تحولها إلى قيم إيمانية، فالعلاقة بين القيم الإيمانية هي علاقة صبر "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فمع الصبر للمقاتل الذي استعد للتضحية بكل وجوده في سبيل الله سبحانه وتعالى، حالة اشتدادية في الصبر إلى الحد الأعلى، أي أنه مستعد أن يُخرج من ماله ويُخرج من نفسه ما دام ذلك بعين الله وفي ظل مرضاة الله سبحانه وتعالى، فالقيم الجهادية هي اشتداد للقيم الإيمانية وليست شيئا منفصلا عنها أبدا، لذلك نحن لا يوجد لدينا منظومة تربوية جهادية بمعنى القتال في سبيل الله منعزلة ومنفصلة عن منظومة القيم الإيمانية، وعي القيم الإيمانية والسعي إلى التربي على اشتداد هذه القيم، فمثلاً الذي يدفع الحقوق الشرعية ربى نفسه على أنه من الصبر أن يُخرج 20% من مدخراته كل سنة ومن أرباحه الفائضة عن مؤنته، بينما هذا الإنسان المجاهد فقد ربى نفسه على أنه مستعد أن يخرج من جميع ماله، بل ربى نفسه على أنه مستعد أن يخرج حتى من هذه الدار كلها لأنها بالنسبة له دار لعب ولهو ومتاع وغرور وزينة وتفاخر وأن الآخرة هي الحيوان، هي الحياة الحقيقية الخالدة البقية.

لذلك يقرب المجاهد الواعي لجهاده من درجة كبار السالكين بل العارفين الواصلين إلى الله سبحانه وتعالى، والإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه في كلماته هناك إشارات واضحة، كمثال الشهيد الشاب محمد حسين فهميده الذي فجّر نفسه تحت الدبابات البعثية العراقية، والذي أصبح يوم استشهاده هو يوم اليافع والتعبئة الطلابية في إيران. فقد عبّر عنه الإمام بأنه هذا هو الواصل إلى الله سبحانه وتعالى، فقد وصل ليس بعد مجاهدات سبعين وثمانين سنة، بل وصل بسرعة البصر أو سرعة الضوء.

على هذا الأساس هنا يوجد مفارقة، فعند النزول لأرض الواقع، إذا ما أحسن أهل العلم بمختلف شعابهم (أهل التربية وعلماء الأخلاق وعلماء الدين بالدرجة الأولى) تربية الجيل الجهادي، نكون على عتبة مخاطر على أرض الواقع، لأن العملية الفيزيائية للقتال عندما تستمر ولو في فصول مختلفة، مثل قتالنا بالعراق قتالنا بسوريا وقتالنا الآن هنا على طريق القدس، قد نقع في فخّ العادة، بينما الشاب الذي يحمل التربية الجهادية في قلبه وسلوكه، فهو شاب شجاع تعلمّ الشجاعة ومستعد إلى أقصى درجة أن يبذل من نفسه وماله. وكما أسلفت فهنا دورنا كمربين، فإذا ما أحسنّا المواكبة الدائمة للتربية الجهادية الايمانية وتوعية هذا الجيل على المفارقة بين بطل من جهة وبين مجاهد يساوي مقاتل في سبيل الله عز وجل من جهة أخرى، يترجم "وما صبرك إلا بالله"، "بلى إن تصبروا وتتقوا"، "تلك حدودو الله فلا تعتدوها" إلى آخره من صفات المجاهد في سبيل الله عز وجل، لا إشكال ولا ريب في أن الكيان العسكري لا سمح الله يكون أمام مخاطرعلى المدى البعيد، لأن العملية التربوية إذا وقفت انحدرت، فهي لا تبقى مكانها في حال غياب العملية التربوية الجهادية، فيجب أن تبقى في أصالة التداوم في التربية والتزكية حتى تبقى في تطور وارتقاء مستمر.

 

من نافل القول أن تنشئة أفراد جهاديين من البيئة الاجتماعية، فمن الطبيعي جدا أن المجتمع سوف يتحول الى مجتمع مواكب للجهاد، وشيئا فشيئا سيتحول الى مجتمع جهادي، وهذا شيء طبيعي، لأن المجاهدين هم أبناء هذه البيئة، فهم لم يأتوا من محل آخر فيتعاطف معهم الناس في بيئتهم، وهذه نقطة مهمة جدًا، هم أبناء المجتمع يعني الآن الجنوبيون عندما بيصبرون، هم يصبرون وأولادهم يجاهدون، وعلى هذا الاساس لا إشكال ولا ريب في أن لهذا تأثيرا واضحا على مستوى الأسرة، فعندما يستشهد شاب من بيت، نرى كيف يتغير البيت كله، فمثلاً بيت غير ملتزم تتحول أخوات الشهيد فيه إلى ملتزمات، ويتحول الإخوة فيه إلى متدينين شيئا فشيئا.

أيضا مسيرة الجهاد والمقاومة عزها الله تعالى، لها دور أساسي ورئيسي من خلال الطقوس والمراسم التي تُقام عند الاستشهاد، والذكرى السنوية، فضلا عن حضور الندوات، واستقبال عوائل الشهداء، ولقاء سماحة الأمين العام سابقا عندما كان يلتقي الناس بشكلٍ مباشر، إلى آخره..، شيئا فشيئا تحول المجتمع إلى مجتمع جهادي وَلوُد. فليس فقط إبن الشهيد لأنه ربته مؤسسة الشهيد هو مشروع مجاهد في سبيل الله، بل المحيط كله، وإذا أخذنا المجاهدين فهم على مساحة وجودنا في هذا الوطن، ومن الطبيعي جدا أن تتأثر البيئة الاجتماعية بهم.

وللتذكير فالفرق بين تربيتنا الجهادية والتربية العسكرية للآخرين، هي أنهم يربون أبطالاً، بينما نحن نربي  بطلاً بعنوان مجاهد في سبيل الله، أي يقاتل في سبيل الله من خلال صدق النية، فحتى لو كان يقاتل تحت أقدس راية، راية رسول الله صلى الله عليه وآله يصبح أجلكم الله شهيد الحمار كما وصفه النبي الأعظم في بعض الروايات.

 

 ونحن إذا ربحت المقاومة وخسرنا أنفسنا، فقد خسرنا المشروع على المستوى البعيد، لأننا إن لم نربي أفرادا جهاديين في سبيل الله، فخسارة لشخص هي بدء مسار خسارة والعياذ بالله، طبعا هذا بعيد عن مسارنا بالكامل، ولكن الإنسان في ندوة علمية لا بد أن يفترض المخاطر المحتملة أو التي ربما تؤول إليها الأمور. ثم إذا فرد واحد في مسيرتنا من الذين خاضوا التدريب الجهادي والعسكري النفسي والفيزيائي لم تكن نيته لله سبحانه وتعالى فنحن إذا خاسرون، ونحن سنحاسب على ذلك، أي الذين كانوا قائمين إذا كان لديهم تقصير هم سيحاسبون إذا ارتحل هذا الإنسان من دار الدنيا ولم تكن نيته عند التقاء والتحام الصفوف خالصة لله سبحانه وتعالى.

 

 

 

 

 

آخر تحديث : 2024-08-28
الكلمات المفتاحية للمقال:
مشاركه في:

تعليقات

اترك تعليقك هنا