التربية العاشورائية على الوعي السياسي

لا شكّ أن الإحياء العاشورائي لا يقف عند الدمعة على الإمام الحسين، على الرغم من أهميتها وتأكيد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عليها، لكن أيضًا المجالس العاشورائية الهدف منها إحياء ما أراده الإمام الحسين من مضامين لثورته المباركة. فطريق الإمام الحسين وواقعة كربلاء هي مدرسة متكاملة في الوعي والبصيرة والموقف.
لقد قدّم الإمام الحسين (ع) من خلال نهضته نموذجًا فريدًا في التربية المجتمعية والفردية، ومن وفي مقدمتها التربية على الوعي والفعل السياسي، حيث بيّن لنا أن الانحراف السياسي ليس شأنًا يكون عليه السلطان وتفسد من خلاله الدولة، بل هو تهديد لمفاهيم الدين وأحكامه وتلاعب بمصير الأمة. ومن هنا، فإنّ التربية العاشورائية لا تقتصر على أخذ الواقعة بمضامينها العاطفية، على أهميتها، بل تمتدّ إلى غرس الوعي عند الأمة لتكون قادرة على تمييز الحق من الباطل، ومستعدة لتحمّل تبعات الموقف متى دعت الحاجة.
قال الإمام الخمينيّ (قدس سره): "إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء"، وهو يريد أن يبيّن أن كل تربية مجتمعنا وأفرادنا على المبادئ والقيم السليمة والصحيحة، لا سيّما أباة الضيم ورفض الظلم، هو من عاشوراء. ولا شكّ أن الإمام الخمينيّ قد رأى أنّ عاشوراء في الحقيقة منهج وأسلوب عمل سياسيّ يفترض ألّا تقف دونه الحدود والأزمنة. وحيث يكون الظلم والجور، يُفترض أن يتحوّل المكان إلى كربلاء، وفي الزمان الّذي تُرتكب فيه الجرائم ويُضطهد الناس يكون الزمن عاشوراء. وبالتالي ينبغي أن توقظ مجالس الحسين حسّ الكرامة والرفض والحرية عند الناس، لا سيّما عند الشباب، ومن خلال متابعة الأحداث التي تحيط بنا، نعرف أننا بحاجة إلى فهم التربية السياسية العاشورائية كعملية تراكمية تُصنع عبر الزمن، من المجالس والمنابر والبيوت، لتشكّل وعيًا سياسيًا مرتبطًا بالحق، ورافضًا للذل.
حين خرج الإمام الحسين على يزيد، كان يحمل همّ الدين والأمة، ويواجه انحرافًا خطيرًا في الحكم والدين، لأنّ سيطرة يزيد على الحكم وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين يعطيه السلطة لأن يبثّ انحرافاته في الدين القويم. وبالتالي لا بدّ أن أهداف الإمام الحسين السامية كان أبرزها متمثلًا بالإصلاح، ونزع الشرعية الدينية والسياسية عن يزيد، وقد قال (ع): "ما خرجتُ أشِرًا ولا بطرًا، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي".
ويعبّر الإمام الحسين (ع) عن استحالة أن يقبل العيش في ظل حكم جائر، حيث قال: "لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما". فالخضوع عنده ليس خيارًا، بل خيانة للكرامة والحق، وحتى لو كانت النهاية هي الشهادة، فهي أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان المدافع عن الحق. وبالتالي فإن مجالس الإمام هي حلقات تثقيف وتعبئة، تُعيد قراءة كربلاء بلغة العصر. وهذه المجالس التي تردد شعارات الحسين: "هيهات منّا الذلّة"، زرعت في وجدان شباب المقاومة أن لا خيار إلا مواجهة العدو الظالم المعتدي، وحيث يؤكّد الإمام الخامنئي (دام ظله): "إن المجالس الحسينيّة تعني المجالس ضدّ الظلم، المجالس ضدّ الهيمنة، المجالس ضدّ شمر ويزيد الزّمان... إنّها استمرارٌ لقضيّة الإمام الحسين (ع)".
وهذه المضامين هي التي انطلقت منها حركات المقاومة، وخصوصًا في لبنان، لكي تعيد استلهام كربلاء في خطابها وثقافتها. وحين يتحدث المقاومون عن التحرير ورفض الهيمنة، فإنهم يحيون مفاهيم مدرسة كربلاء التي تربّوا عليها في مجالس الإمام الحسين.
وقد عبّر السيّد الأسمى الشهيد السعيد السيّد حسن نصرالله، في مسيرة يوم العاشر من المحرّم عام 2019، بالقول: "في هذا الزمن نستعيد الحسين، وكلّ ما جرى في كربلاء كعنوان لكلّ مظلوم ومستضعف ومعذّب ومضطهَد ومقهور، محتلة أرضه، منتهكة مقدساته، وفي نفس الوقت، هذا المظلوم يرفض الخضوع والذل والهيمنة، ويقوم ويجاهد ويضحي بولده ونفسه وماله، ويصدح بالحق عاليًا في كلّ العالم".
كذلك، لا يمكن فصل حضور المرأة في عاشوراء عن التربية على المبادئ العاشورائية المتعددة. فالسيدة زينب (ع) لم تكن فقط أخت الحسين، بل كانت الناطقة باسمه بعد الشهادة، والضامنة لوصول رسالته إلى الناس، وتعليم الناس الوقوف في وجه الظلم، وعلى العزّة والكرامة. حيث قالت: "فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها". ومثلها اليوم الأمهات اللواتي يُربّين أبناءهن على المشاركة في المجالس.
وعليه، فإننا نقول: إنّ عاشوراء تجعلنا نعرف أننا أبناء هذه المدرسة التي ترفض الظلم، ونحدّد من خلالها أهدافنا في الحياة أن نعيش وفق مضامينها، وأن نُميّز بين الحق والباطل، ونُحدّد العدو الذي يجب أن نواجهه. وبالتالي، فإنّ عاشوراء هي مدرسة تُربّي الناس على الوعي في كل نواحي الحياة.
تعليقات