جدلية النصر والهزيمة: نظرة على الفكر التربوي الإمامي

د.علي مطر*
يُشكّل مفهوما النصر والهزيمة إحدى المباحث العميقة في الفكر التربوي الديني والسياسي الإسلامي، لما ينطويان عليه من أبعاد عقائدية وتربوية وتاريخية. وفي الرؤية التي تعتمدها المدرسة الإمامية، لا تُقاس هذه الجدلية بمعايير الغلبة العسكرية أو النتائج الظاهرية، بل تُقرأ ضمن بنية ثقافية (أو كما يعبّر البعض: وفق هندسة ثقافية) تستند إلى أركان التوحيد والعدل والإمامة، مع الأخذ بالظروف والوقائع بعين الاعتبار. فالنصر ليس دائمًا ثمرة السلاح، كما سيظهر لاحقًا، والتراجع لا يُعدّ بالضرورة علامة انكسار.
إن هذه النظرة تدعونا إلى أن نتعلم كيف نربط تقييم النتائج بالقيم وليس بالمظاهر، وأن لا نغترّ بالمكاسب المؤقتة أو ننهار أمام الانكسارات الظاهرية، وهذا ما يمكن أن نبينه في هذا المقال.
في القرآن الكريم، يتجاوز مفهوم النصر المعادلات المادية، ويرتبط مباشرة بالإرادة الإلهية، مع أهمية الأخذ بالأسباب المادية كالاستعداد والدفع وغيرهما. ومع ذلك، تظهر من خلال الآيات القرآنية أن النصر الإلهي يتجاوز مجرد المعادلات الأرضية:
﴿إِنْ يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160]
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 10].
وبهذا المعنى، يرى أمير المؤمنين الإمام علي (ع) أن النصر يتحقق بالطاعة لا بكثرة العدد والعتاد. وقد جاء في جوابه لعمر بن الخطاب، حين استشاره في الخروج شخصيًا لقتال الفرس:
"إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده..."[1]
في هذا الحديث، يعلّمنا الإمام علي (ع) أن سر النصر الحقيقي يكمن في قوة العلاقة مع الله، وليس في ظواهر القوة العسكرية، على أهمية أن يأخذ الإنسان بالأسباب لكن السبب الرئيسي للنصر هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى والثقة بالإرادة الإلهية وبالتالي فإن التوفيق للنصر هو أمر إلهي.
بالتالي، يُفهم النصر في المنظور الإمامي على أنه انتصار للمبادئ والقيم، حتى لو لم يتحقق نصر ميداني دائم. وهذا لا يلغي السعي الجاد لتحقيق النصر الظاهري، بل يثبت أن النصر النهائي بيد الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب.
وقد تجلّى هذا المفهوم بأبهى صوره في واقعة كربلاء، حيث واجه الإمام الحسين (ع) جيش الطاغية يزيد بقلّة العدد والعدة، لكنه حقق نصرًا قيميًا وأخلاقيًا غيّر مجرى الوعي الإسلامي وحافظ على جوهر الرسالة المحمدية، فكربلاء تُربينا على أن التضحية من أجل القيم تُحقق أعظم الانتصارات في مسار الأمم، حتى لو غابت المظاهر المادية للنصر.
حين يواجه المؤمن العدو، يضع نصب عينيه تحقيق النصر، لكن عدم تحقّق النصر لا يُعدّ في الفكر الإسلامي الإمامي فشلًا وجوديًا أو سقوطًا روحيًا، بل يُنظر إليه كأداة من أدوات التهذيب والتمحيص، لكشف المعادن الحقيقية للناس وغربلة الصفوف. يقول تعالى:
﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 141]
﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179].
وقد عبّر الإمام الباقر (ع) عن هذا المفهوم في الرواية التي ينقلها أبو بصير:
"والله لتميزن، والله لتمحصن، والله لتغربلن كما يغربل الزؤان من القمح."[2]
وعن محمد بن منصور الصيقل، عن الصادق "ع" "لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا"[3]
إن ما أراده الإمام الباقر وكذلك الإمام الصادق عليهما السلام من بعده، هو تربية شيعته على الصبر في فترات الفتن، حيث يُمحص الإنسان والمؤمنون لمعرفة صبرهم وصدق نواياهم.
وبالتالي، فإن عدم تحقق النصر الظاهري يُعدّ فرصة لمراجعة الذات، وفرز الحلفاء الحقيقيين، واكتشاف مكامن الضعف، وإعادة بناء المشروع الرسالي على أسس أكثر متانة وصلابة، بالاستفادة من الدروس والعبر.
في العقيدة الإمامية، يشكّل مفهوم "الانتظار" حجر الزاوية في تشكيل الوعي الجمعي. فالانتظار أرقى تعبير عن الإيمان بحتمية النصر الإلهي، وأفضل وسيلة لبناء مجتمع نصير للمستضعفين، قائم على الصبر والتحمل والتمهيد لإقامة دولة الحق والعدل.
ولا يُفهم الانتظار كحالة سلبية أو جمود عابر للتاريخ، بل كمشروع تربوي تحضيري نشط لنصر قادم. وقد يخالفنا البعض في هذا الفهم، إلا أن من صلب مفاهيمنا الحقة أن التمهيد لدولة الإمام المهدي (عج) يقتضي مقاومة الظلم، ونصرة المستضعفين، وتحمّل التضحيات عند الضرورة، وهذه هي الرؤية التربوية للانتظار ايضاً، فإن انتظار الفرج الحقيقي ليس بالكسل أو التمني، بل بالسعي والعمل والتهيؤ، مما يربي الإنسان على الجمع بين الأمل والمبادرة.
إن غيبة الإمام المهدي (عج) لا تعني غياب العدل، بل تستبطن خطة إلهية لتربية الأمة وإعدادها. وقد ورد في دعاء الافتتاح:
"اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة..."
هذا الدعاء يعكس تصورًا حضاريًا للنصر، حيث لا يُراد به مجرد الغلبة العسكرية، بل إقامة دولة العدالة والكرامة والعزة الإنسانية.
فالانتظار إذن هو حركية دائمة في طريق التمهيد، وهو تربية على أسمى معاني الصبر والانتظار، لكنه لا يُلغي ضرورة العمل والسعي، حتى لو لم يتحقق النصر الظاهري الكامل، فالثبات على الطريق بحد ذاته شكل من أشكال النصر.
في خلاصة القول، إن مفهوما النصر والهزيمة يشكّلان محورًا مركزيًا في الفكر والثقافة الإسلامية الإمامية، منفتحًا على معاني الإرادة الإلهية، ومبنيًا على العلاقة الجوهرية بين الإنسان والمبدأ.
إن أهم ثمرة لهذه الجدلية هي تربية الشخصية المؤمنة التي تستمد قوتها من التكليف الإلهي وليس من النتائج الميدانية وحدها. فالنصر الحقيقي لا يتحقق إلا عبر الطاعة والثبات على القيم وأداء التكليف، وبالمقابل فإن الهزيمة لا تُعدّ خذلانًا إلا حين يهمل الإنسان الاستعداد وتحمل مسؤوليته تجاه مبادئه. فإذاً نحن أمام دروس وعبر تارةً تتعلق بالقيام بالتكليف وأداء الواجب، وأخرى بتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتق الإنسان.
وبين هذين المفهومين، تتشكل جدلية فكرية وتربوية، تُعدّ الأمة لاستقبال النصر الإلهي وتحقيق العدالة المنشودة.
* د. علي ابراهيم مطر باحث واستاذ جامعي
المراجع:
القرآن الكريم.
دعاء الافتتاح، مفاتيح الجنان، فصل الأدعية العامة، أدعية شهر رمضان.
محمد بن إبراهيم النعماني، كتاب الغيبة، ج1، ص211.
الكافي - الشيخ الكليني - ج 1- الصفحة 370
نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الحكمة رقم 45، حياة أمير المؤمنين (ع) عن لسانه - محمد محمديان - ج 3 - الصفحة 108
نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الحكمة رقم 45.
[1 نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الحكمة رقم 45، حياة أمير المؤمنين (ع) عن لسانه - محمد محمديان - ج 3 - الصفحة 108.
[2] محمد بن إبراهيم النعماني، كتاب الغيبة، ج1، ص211.
[3] الكافي - الشيخ الكليني - ج 1- الصفحة 370
تعليقات